الواقع العراقي خصوصا والعربي عموما يتمتع بظاهرة غريبة توالت على الحياة السياسية منذ أن استقلت الدول العربية، وتتلخص بأن أنظمة الحكم تأتي بانقلابات تسمى ثورات أو انتفاضات، والقائمون بها من الذين بلا خبرة سياسية وقدرة على إدارة الحكم، فيخضع المجتمع لرحمة تجاربهم وأخطائهم ومزالقهم وخطاياهم، وبمرور بضعة سنين يتعلمون شيئا من السياسة وفنونها بعد أن أحرقوا الأخضر بسعر اليابس، وحالما يحاولون التكفير عن مآثمهم بإصلاحات وطنية ذات قيمة ومنفعة للناس يجدون رؤوسهم قد أينعت وحان قطافها، ليحل مكانهم أناس آخرون لا ناقة ولا جمل عندهم بالسياسة والحكم، وتُعاد الكرة من جديد، ويمضي الشعب في محنة التجريب والتدمير والتخريب وهكذا دواليك.
والمثل الواضح ما جرى في العراق منذ تأسيس دولته وحتى اليوم، ولهذا وصل الأمر إلى ما هو عليه من وجيع وتداعيات مريرة وقاسية. وفي هذا الناعور الإتلافي الدوّار الذي يغرف دما ويسكب دما، فقدت البلاد والعباد نعمة أو حصيلة الخبرات التراكمية في القيادة والحكم، وصار الوطن والشعب يدوران في دوامة مفرغة من المآسي والويلات المتصاخبة، لغياب الخبرة والمعارف المتواصلة المتوارثة عبر الأجيال، ذلك أن كل نظام يأتي ينسف سابقه ويقتلع ما يمت بصلة إليه، ويبدأ مشروعه الطفولي أو المراهق ليأتي بعده مَن يمحقه عن بكرة أبيه، فيبقى الحال في تقهقر ومراوحات دون القدرة على الخطو قليلا إلى الأمام.
ويظل الشعب في محنة نفسية سلوكية وتفاعلات سلبية لغياب الاستقرار السياسي وعدم وضوح معالم الطريق، مما يتسبب بخسائر حضارية فادحة، ويدفع إلى تصارعات واحتدامات قاسية تكلف الأجيال أثمانا باهظة، وتسرق فرصهم في بناء الحياة وصناعة المستقبل اللائق بهم. والمجتمعات القوية لديها ذخيرة واستمرارية في آليات وخبرات القيادة والإدارة والحكم، كما هو الحال في الدول الأوربية وأمريكا واليابان والهند، وغيرها من الدول القوية المستقرة المؤكدة لإرادتها والساعية لتطلعاتها وأهدافها المرسومة أو المطلوبة.
وفي مجتمعاتنا يكون جوهر العلة في النواعير الدموية الدوارة التي لا علاقة لها ببعضها البعض، وإنما هي في تنافر وعداء مرير، فلا يوجد نظام حكم عربي أثنى على نظام حكم سبقه، بل لابد أن يصوره بأنه من أخس وأعتى أنظمة الحكم، ويأتي بأبشع مما كان وحصل، حتى تحولت البلدان العربية إلى ميادين مصارعة ثيران أو تقاتل ديكة على دجاج يبيض ذهبا!!
إن وعي هذه العلة وفهمها والتأكيد على تراكم المعارف والخبرات، واحترام العقل العربي والمفكر العربي والاجتهادات المعرفية الصائبة الصالحة للحياة، سيساهم في المعالجة الموضوعية والعملية للمآسي العربية التائهة في محيطات المصالح العاتية الأمواج!!
فهل من واقعية وعملية وقدرة على التفكير السليم؟!!
واقرأ أيضاً:
الذكاء أن ترى المستقبل!! / الماضوية والمستقبلية!! / الاستثمار بالأفكار والإنسان!! / مفيش سياسة!!