ساخن من مصر أيام الغضب الاثنين1
اليوم رائحة الثورة في كل مكان في مصر..... أنوي إنهاء عملي مع صلاة العصر ثم أتجه إلى القاهرة... بمجرد وصولي إلى عيادتي في المنتزه وسط الزقازيق عرفت أن بث الجزيرة على العرب سات يتعرض لتشويش شديد بحيث أصبح الأفضل هو استقبال بثها عن طريق القمر الأوروبي "هوت بيرد"... واستغرق الأمر ثلاث ساعات حيث كان لزاما أن أشتري كاميرا مخصوصة ليتم تركيبها على الطبق، وللأسف كنت قد قاربت إنهاء عملي عندما أمكن استعادة بث الجزيرة في العيادة.
منذ الصباح الباكر عرفت أن الوصول إلى القاهرة قد يكون مستحيلا هذا اليوم.... فقد عاد المسافرون كلهم بعد أن مُنِعوا عند مخارج الزقازيق وقيل لهم أن دخول القاهرة ممنوع اليوم.... ثم تواترت أنباء مفادها أن هناك كثيرين من قطاع الطرق منتشرون في أنحاء الجمهورية، ولا يوجد رجال أمن؟؟ هذا برغم أنه أعلن بالأمس أن رجال الأمن سيعودون لممارسة أعمالهم لحفظ الأمن يا ترى أي أمن يقصدون؟
ما أن أنهيت عملي وصليت العصر حتى سمعت بأن تظاهرة تتجمع الآن في الزقازيق في ميدان طلعت حرب بشارع الجلاء...... قلت أمرُّ بها أولا وبالفعل نزلنا ووصلنا التظاهرة ورأيت الأعداد أكبر والتنوع أكبر لقد كثر الأطفال وبدا أن عائلات عديدين من زملائي بأكملها نزلت للتظاهر اليوم الزوج والزوجة وأولادهما..... وما بين الفينة والفينة نجد دفقا من المتظاهرين يتوافدون من الشوارع الجانبية، الهتاف الأوحد الشعب يريد إسقاط "أو إعدام" الرئيس... لم تكن مظاهرة التحرير وصلت المليون بعد، وسمعنا أن تظاهرات أخرى تجمعت في ميادين أخرى في القاهرة بالتوازي مع مظاهرة التحرير.
شعرت بشوق كبير لمحاولة الوصول إلى ميدان التحرير واتصلت بسائقي وطلبت أن يأتيني بالسيارة عند العيادة وواصلت السير حتى وصلت وهناك وطلبت من السائق أن نمر بالبيت لأسلم على أمي وآخذ بعض ما قد أحتاج... فقال سيضيع وقت طويل لأن الحركة صعبة جدا داخل البلد... قلت له توكل على الله يا عبد المنعم، وبالفعل قابلتنا حواجز متعددة في الطريق إلى البيت وفي الطريق منه إلى مدخل طريق بلبيس الصحراوي ووجدنا آخر الدبابات والمدرعات العسكرية في مدينة الزقازيق ودون سابق تفكير ألهم الله عبد المنعم أن يقول طبيب دكتور وائل أبو هندي ويبدو أن كلمة طبيب كانت هي كلمة السر التي عبرنا بها كل حواجز الجيش....
وعند البوابة التي تحصل الحكومة من خلالها رسوم المرور على الطريق منذ أكثر من ربع قرن في البداية كانوا يقولون أنها تكاليف إنشاء هذا الطريق الوسيع المزدوج وكنا ندفع.... ولما طال بنا الزمان ونحن ندفع لم نكد نعي لنسأل إلا وفاجئونا بأن تجربة طريق الزقازيق القاهرة الصحراوي نجحت ويتم الآن تعميمها على كل الطرق الجديدة... ولما قلنا دفعنا ثمن إنشاء الطريق بالفعل قالوا: تبقى تدفع لصيانة الطريق؟ عند هذه البوابة كانت الدبابات متراصة بأعداد ملحوظة وكان السؤال والتأكد من شخصيتي وشخصية السائق ورخصة صلاحيته للقيادة ورخصة ملكية السيارة... كان التأكد من دخولنا طريق القاهرة الصحراوي أعسر من كل ما سبقه وأبطأ.... وهم السائق بالسؤال عن جنيهين لدفع رسم المرور فقلت له لن تجد أحدا يأخذ الضريبة وبالفعل كانت الشبابيك مظلمة وشبه مغلقة..... وهذه المرة الأولى وأسأل الله أن تكون الأخيرة التي أمر بها خاوية هكذا على عروشها..... أي والله رغم أني كنت أشهد الله أني لا أسامح في ما أدفع من رسوم... إلا أن منظر بوابة تحصيل الرسوم الخاوية على عروشها تلك آلمني أشد الألم.
بدأت أتذكر ما قالته نانسي نطلع الصحراوي ويطلعوا علينا قطاع الطرق ماذا نحن فاعلون..... وأنا أقول في نفسي فالله خيرٌ حافظا وهو أرحم الراحمين..... ثم تذكرت مخاوفها ليلة الأحد على عيادتي في القاهرة وهي وسط مول تجاري كبير مجاورٍ لميدان روكسي وسوقه المشهورة... ألا يمكن أن يتعرض للنهب أو للتخريب!؟... أقول في نفسي فالله خيرٌ حافظا وهو أرحم الراحمين.... المهم عندي الآن هو المشهد عند بوابة تحصيل الرسوم للخارجين من القاهرة وإلقاء إيصالات سداد الرسوم من قبل الداخلين إلى القاهرة... نفس المشهد تقريبا قبل البوابة تفتيش دقيق وتأكد من الهوية وكل ذلك بعد ذكر كلمة السر طبيب ثم الهمهمة بأن لي علاقة بالطوارئ والكوارث.... ثم نمر بعد ذلك...... هذه هي مدينة السلام.... على يميننا مساكن الزلزال وبعد حوالي 300 متر وجدنا حاجزا آخر من الدبابات يحول الطريق إلى داخل مدينة السلام ومررنا بعد ذلك بعدد من الحواجز ونقاط التفتيش التي يقف عليها مجموعات من الشباب يسألونك من وإلى أين ويفتشون الحقيبة الخلفية للسيارة.... وبين الحاجز والحاجز كنا نرى بعض المباني والمحال التجارية المحترقة وبدا واضحا أن لهذا يقف الشباب.
كانت شوارع القاهرة كلها فارغة تماما إلا من الواقفين على نقاط التفتيش الأهلية تلك وحتى السيارات كانت تُعد على الأصابع.... مشهد لا أظنه سيتكرر فشوارع القاهرة مكتظة حتى طوال الليل في العادة حتى في وقت الإفطار في رمضان،.... يبدو أن حظر التجوال يجد مستجيبين في القاهرة،....... وعندما اقتربنا من ميدان روكسي المجاور لقصر العروبة وهو أحد القصور الرئاسية تبين أن كل طرق الوصول إليه مغلقة ولما نزل نتحول من طريق إلى آخر حتى وصلت مكاني، أدخلت سيارتي في مكانها، وصليت المغرب والعشاء جمع تأخير.... ثم نويت النزول قاصدا ميدان التحرير.... لكن كيف؟ لا توجد سيارة أجرة واحدة في كل الشوارع المحيطة بي وكل المحال مغلقة والسير إلى ميدان التحرير من روكسي مستحيل فالمسافة لا تقل عن 20 كيلومترا..... أي إحباط هذا.... تمنيت لو أنني متمكن من معرفة الطرق والشوارع الجانبية في القاهرة ليكون ممكنا أن آخذ سيارتي... لكنني للأسف اضطررت للعودة إلى حيث لا جزيرة ولا إنترنت ولا متابعة حية لما يحدث.... فقط لدي جهاز راديو لا يبث إلا الإذاعة المصرية.
واتصل بي أحد الزملاء ليبلغني خبرا مضحكا مفاده أن مظاهرة خرجت أمام مبنى وزارة الخارجية قوامها حوالي 500 شخص بعضهم لواءات شرطة بالزي الرسمي! كان هذا مضحكا بحق..... وقفزت في ذهني مشاهد مما حدث في فنزويلا منذ عدة سنوات عندما خرجت مظاهرات حاشدة ضد الرئيس شافيز وبدا من تصفيق الولايات المتحدة وأذيالها الإعلامية أن الرجل راحل راحل... ثم بدأت المظاهرات المعاكسة التي تؤيد الرئيس شافيز، الفارق كان كبيرا حيث بدا أن مؤيدي شافيز لم يخرجوا إلا لثقتهم بأن معارضي شافيز هم فعلا قلة من عملاء الغرب، فهل من الممكن أن يحدث ما يشبه ذلك؟ يستطيع الحزب الوطني أن يفعل نفس ما فعله في الانتخابات وفي مصر -إضافة للمنتفعين من النظام الفاسد- يوجد جوعى بالآلاف لا مانع لديهم من الخروج للتظاهر مقابل بضعة جنيهات لكنني لا أظن أن هؤلاء حتى ستصل وضاعتهم إلى هذا الحد فيخرجون بالآلاف.... على كل رفض المتظاهرون الخدعة الجديدة.... وإن غدا لناظره قريب.
عرفت من خلال اتصالاتي بالمحمول أن ميدان التحرير الآن قد تجمع فيه ما يقارب مليونين أو يزيد وأن عدد المتظاهرين في الإسكندرية بلغ مليونين ونصف المليون وفي المنصورة بلغ العدد نصف المليون وهكذا أصبحنا نتحدث بالملايين.... والكل ينادي بإسقاط الفرعون ورحيله عن البلاد،...... وبعد قليل أذيع خبر أن الفرعون سيلقي كلمة إلى الشعب فانتظرناه لعل سيودع الناس ويمضي غير مأسوف عليه... لكنه للأسف جاء محبطا أيضًا... الرجل ما زال مصرا على الاستخفاف بمطالب الناس عاجزا عن فهم نفسيتهم ولا تدري على ماذا يود أن يحافظ بعد كل ما جرى؟ تكلم عن إنجازاته كما يراها وكما اعتدنا سماعها من الأبواق الحكومية منذ ثلاثة عقود ووعد بأنه سيجري تعديلا دستوريا وأنه لم يكن ينوي أن يرشح نفسه لفترة قادمة ويود الاستمرار إلى نهاية فترته الرئاسية الحالية لكي يؤمن مقدرات مصر..... ولكن الشيء الوحيد الذي لم يعلنه والسبب الحقيقي في إصراره على البقاء هو أنه لا يستطيع خذلان إسرائيل التي تعلن أنه أهم حماتها في المنطقة....
هذا الخطاب ليس تلقائيا ولا مكتوبا على عجل ومن الواضح أن كاتبه يعرف فنيات علم النفس ومخاطبة الجمهور المصري تحديدا.... لقد لعب على أوتار عدة في نفوس المصريين... بدا وكأنه يعرف أن كثيرين منهم يمكن الضحك عليهم حتى دون اعتذار ودون التزام فهو حتى لم يلتزم بأنه لن يترشح لفترة رئاسية جديدة قال فقط أنه لم يكن ينوي الترشح.... وليس بعيدا عليه بعد أن يجهض الثورة أن يقول لم أكن أنوي ولكن بما أن جموع الشعب تناديني فأنا لا أستطيع إلا أن أقول نعم وهي مسرحية مكررة، كذلك هو لم يقل أن جمال مبارك لن يترشح! ولا قرر تغيير أهم مواد الدستور التي يراد تغييرها! يا له من مراوغ
أحبطني خطابه هذا ربما أكثر من سابقه لكنني لم أكن أستطيع معرفة رد الشارع على هذا الالتفاف على ثورته، وكان الوقت قد تأخر واكتفيت بأن عرفت أن رد الفعل الأولي للمتظاهرين كان رفض الخطاب والإصرار على مطلب رحيل مبارك.
يتبع : .............. ساخن من مصر أيام الغضب الأربعاء2
واقرأ أيضاً:
حرب الترويع والتجويع/ حكاوي القهاوي (23)/ لم يفهمونا بعد