عبد الناصر كان أبا وزعيما حقيقيا للمصرين وانحاز للفقراء منهم, اهتم بالفلاحين فأخذ الأراضي من الإقطاعيين ووزعها عليهم وبني المصانع والشركات للعمال، وكان يخطب في الشعب كثيرا بشكل ثابت ويحكي لهم ما حدث ويحدث بطريقة حميمية, وكانت شخصيته مليئة بالسحر والدفء والجاذبية وأعطى الناس شعورا بالأهمية والعزة والكرامة.
أما مبارك فقد كان معزولا بعيدا وانحاز للأغنياء ومنحهم (بشكل مباشر أو غير مباشر) فرصا لامتلاك مساحات هائلة من أراضي الدولة، وبيعت في عهده المصانع والشركات وطرد منها أغلبية عمالها، ولم يكن يهتم بالخطابة المباشرة في الجماهير ولم يكن بينه وبينهم تلك الجاذبية الإنسانية الخاصة، وأعطى الجماهير شعورا بعدم الأهمية، فقد كان يشعر أنهم زائدون على الحاجة وأنهم عبء على برامح التنمية, وأنهم ضيوف ثقلاء, وحكمهم بالطوارئ ثلاثين عاما، وأحاطهم بقوات الأمن المركزي في كل مكان وهذا يعكس سوء ظن فيهم وعدم قدرة على محاورتهم على المستوى السياسي والإنساني, وعدم قدرة على استيعاب حركتهم وتطلعاتهم وأحلامهم وخلافاتهم ومطالبهم.
كان عبد الناصر منحازا إلى الشعب في الداخل وممثلا لعقله الجمعي الذي يكره إسرائيل ويعتبرها العدو الأساسي والخطر الأعظم، وينظر إلى الوطن العربي كعمق استراتيجي يجب الاهتمام به والتواصل معه وينظر إلى أفريقيا باهتمام وحب.
أما مبارك فكان اهتمامه موجها نحو الخارج وخاصة أمريكا وإسرائيل (حتى قال الإسرائيليين عنه إنه كنز استراتيجي لإسرائيل) وكان الناس يستشعرون أنه منفصل عنهم فيما يخص العلاقة بأمريكا وإسرائيل وأنه لا يمثل رؤيتهم، وأنه أكثر صداقة معهم وأبعد عن العرب وأفريقيا والعالم الإسلامي، وكانت مواقفه معاكسة لمشاعر الناس وتوجهاتهم خاصة في الحرب على لبنان والحرب على غزة وبناء الجدار العازل بين مصر وغزة وتصدير الغاز لإسرائيل، والتسامح مع الإسرائيليين حين يوجهون الإهانات لمصر على المستوى السياسي أو العسكري.
لقد أدرك المصريون بوعيهم الجمعي أن عبد الناصر اجتهد وأخطأ، وقد أوقعهم في كارثة هزيمة 67 وحرمهم من الديمقراطية، ولكنهم أدركوا أيضا إنه كان وطنيا خالصا ومنحازا لشعبه المصري وللشعب العربي، وأن يده نظيفة, لذلك عشقوه حيا ورفضوا تنحيه بعد الهزيمة وخرجوا بالملايين يطلبون عودته وساندوه لإعادة بناء القوات المسلحة وبكوه ميتا وخرج أربعة ملايين يودعونه في أكبر جنازة عرفها التاريخ الإنساني.
كان الناس فقراء في عهد عبد الناصر ولكنهم كانوا يشعرون بالعدل ولديهم حلم جميل بالوطنية والعروبة والتحرر والنمو.
كان عبد الناصر يبني الجيش ليدافع به عن الوطن بينما كان مبارك يبني وزارة الداخلية والأمن المركزي ليقمع به المعارضين والمحتجين والمتظاهرين من أبناء الشعب.
لقد أخطأ عبد الناصر حين وثق في عبد الحكيم عامر ورفاقه فحدثت الهزيمة البشعة وضاعت سيناء وأجزاء من فلسطين وسوريا, وشعر بمسؤوليته عن كل ما حدث ووقف بصدق يبكي أمام الشعب ويعتذر ويتنحى، وهنا قبل الشعب الاعتذار وخرج بالملايين إلى الشارع يطلب منه الاستمرار.
ومبارك أخطأ أيضا حين ترك ابنه ومساعدوه ورفاقه يديرون البلد لصالح الأثرياء فورطوا البلد وورطوه وهيجوا ضده كل الفئات والطوائف، ولكنه لم يعترف ولم يعتذر ولم يستمع لأصوات الاستغاثة وصرخات الغضب التي انطلقت كثيرا في أروقة الجامعات وفي الشوارع وعلى أرصفة مجلس الشعب ومجلس الوزراء ومجلس الشورى.
عبد الناصر لم يفكر يوما في توريث الحكم لأحد أبنائه بينما مبارك وأسرته قد انشغلوا بموضوع التوريث كثيرا وكانت كل جهود الدولة متوجهة نحو إعداد المسرح لركوب نجله جمال على كرسي الرئاسة بينما تجري تمويهات وتنطلق تصريحات ذات طبيعة مراوغة, وخرجت موجات من الصيحات والاحتجاجات ترفض التمديد والتوريث فلا تقابل إلا بالسخرية وبمزيد من الإجراءات ترسخ للتمديد وللتوريث، وهنا شعر الشعب بالإهانة وبأنه ضيعة يورثها الآباء لأبنائهم.
مات الكثيرون من شباب مصر في السجون والمعتقلات وأقسام الشرطة تحت وطأة التعذيب، وساءت العلاقة بين الناس وبين أجهزة الشرطة، ومع هذا لم ينتبه أو يتألم مبارك ولم يبادر بإصلاح هذه العلاقة بين الشرطة والشعب، وإنما كانت سياساته تدفع بالشرطة في مواجهة الشعب حتى تجلى هذا في أحداث 25 يناير حين اشتدت المواجهة بين الشرطة والشعب ليموت ثلاثمائة شاب من أفضل شباب مصر برصاص الشرطة وتحت عجلات عرباتها المصفحة، ثم انهار جهاز الشرطة ماديا ومعنويا وانسحب من الشوارع لعدة أيام وترك مصر بلا أمن على الرغم من أن 20 مليارا من الجنيهات كانت تقتطع سنويا من قوت هذا الشعب للإنفاق على هذا العدد الكبير من قوات الشرطة الذي بلغ أكثر من مليون ونص.
إنه درس مهم في حكم الشعوب.
واقرأ أيضاً:
رحيل الطاغية/ رؤية: ثورة الشباب في خطر داهم/ ساخن من مصر أيام الغضب الثلاثاء3