ساخن من مصر أيام الغضب الثلاثاء3
في يوم الأربعاء الثالث هذا من أيام الغضب المصرية كان جدولي مشحونا ففي الصباح الباكر كان علي أن أكون موجودا في سفارة النمسا بمحافظة الجيزة، لطلب الحصول على تأشيرة دخول لحضور مؤتمر الطب النفسي الأوروبي التاسع عشر للجمعية الأوروبية للطب النفسي The 19th European Congress of Psychiatry, EPA 2011 في شهر مارس القادم حيث دعيت لحضور عدة جلسات وورش عمل عن العلاج المعرفي السلوكي للوسواس القهري، وعلي في الساعة الثانية بعد الظهر أن ألتقي مجموعة من الزملاء والأساتذة لننظر ماذا ينبغي علينا كمجموعة أطباء نفسانيين فعله في الظروف العصيبة التي تمر بها بلدنا... فنحن حتى الآن لم نفعل إلا ما كان تصرفا فرديا من كل منا... فبيننا من شارك في التظاهرات وبيننا من مارس بعض أنشطة الدعم عبر الإنترنت ولكن الأفعال ظلت فردية والجهود ظلت غير منسقة.... ولذلك كان علينا أن نلتقي....
بين الموعدين كان لدي أربع ساعات سأقضيها في التحرير.... أنهيت المقابلة في السفارة ثم اتجهتُ إلى ميدان التحرير... وفي الطريق عرفت أن كشف المحاسبات البنكية Bank Statement الذي استخرجته من البنك وقدمته للسفارة مع طلب التأشيرة لا يصلح داعما لي لسبب بسيط هو أنه لا يوجد فيه رصيد مقنع.... وكان من المطمئن لي أن الموظفة التي اتصلت بي لتخبرني قالت أنهم مستغربون لأن معظم من قدم كشوف المحاسبات البنكية من الأطباء أظهرت كشوفهم عدم وجود مدخرات.... الحمد لله لست وحدي الخائب بين أساتذة الطب النفسي... مع ملاحظة أن معظم من كانوا معي من الزملاء كانوا من مقاطعي فكرة العمل في الخليج.
المشكلة أنني بالكاد أكملت قسط الجامعة الألمانية وليس لدي رصيد في أي بنك والحمد لله تعالى فهذا أمر مشرف في زمان أعرف ويعرف كل المصريين فيه أن القرش الحلال تحصله الضرائب منك بعدما تعول نفسك وأسرتك، فهذا ما اعتدت قوله لأي سائل عن مناخ وظروف إقامة أي مشروع في مصر في سنوات مبارك خاصة الأخيرة فقد كنت أسأله: هل تنوي أن تتاجر أو تعمل بالحلال فإن قال نعم قلت له إذن لا تفعل ببساطة لأن الحكومة المصرية تعاملك على أساس أنك تسرق الناس فيفرضون ضرائب تقتص من رأسمالك نفسه ما دمت لا تسرق وإنما تتربح بالخلال، ولا حيلة لك في تجنب ذلك إلا برشوة مأمور الضرائب إذن فالحل هو إما أن تسرق الناس أو تكذب عليهم أو أن تقدم الرشوة لممثل مصلحة الضرائب يعني إما الحرام أو الحرام أو الحكومة ستسرقك!.... لست أدري إذن ما سأفعل لأحصل على تأشيرة النمسا؟..... لم يكن لدي وقت لأفكر ربنا يسهل.... ها أنا على مشارف شارع قصر العيني لأدخل ميدان التحرير.
أوقفنا السيارة في أحد شوارع حي المنيرة على بعد حوالي 800 متر من ميدان التحرير وجلسنا على أحد المقاهي ليفطر السائق وأشرب أنا القهوة..... وكان واضحا أن كثيرين في كل الشوارع تقريبا متجهون إلى التحرير كان المشهد صورة تشبه الزحف المتزايد... لم أستطع انتظار القهوة حتى تبرد ولم يكد عبد المنعم ينهي إفطاره حتى قمنا متجهين إلى التحرير.... وفي الطريق وجدت تجمعا كبيرا داخل مبنى مؤسسة روزاليوسف الصحفية ولما سألت فيم تتجمعون جاء الرد لنا مطالب وحقوق سنعتصم حتى تلبى.
وفي الطريق أيضًا سألني أحد السائرين إلى جواري قائلا هل يمكنك قراءة المكتوب هنا وكان يحمل في يده اسطوانة كرتونية صغيرة حمراء وفي قاعدتها غطاء نحاسي كتب عليه رقم 12 و يو إس إيه U S A ... وعندما قرأتها له قال يعني أمريكاني.... وهناك أيضًا خرطوش أزرق عليه نجمة غير واضحة إن كانت خماسية أو سداسية... سألته من أين حصلت على هذه ألم تتوقف الشرطة عن ضرب المتظاهرين منذ أسبوع تقريبا؟ فقال نعم توقفوا هذه بقايا، سألته هل هناك غيرها فأشار إلى شارع تجاوزناه وقال الأرض ملآنة... نظرت إلى سائقي وقلت له: هل نرجع لنجمع بعض هذا فقال لي في طريق عودتنا يا دكتور.....
كان الميدان في نور الصباح مختلفا... هناك أمتار من الأرض فارغة تستطيع أن تمشي دون أن تتلامس مع الآخرين وهناك إلى جوار الأرصفة وعليها كثيرون نيام ملتحفين بالبطاطين وهناك كثير من الخيام بعضها من القماش وبعضها من البلاستيك.... وهناك يغطي النيام على الأرصفة سقف من النايلون الذي وضع غالبا لاتقاء المطر... في الميدان كان حوالي أربع نقاط تجمع للمظاهرين ناشطة وكانت عدة نقاط ما تزال فارغة.... واتصلت بزوجتي التي أعرف أنها متسمرة أمام شاشة الجزيرة تتابع الأحداث متذمرة لأنها ليست معي... كنت أود إزالة الشك في أن الجزيرة تضخم الأحداث سألتها ما هو شكل الميدان كما يظهر عندك فقالت لا ما يزال الميدان فيه فراغات أرض ظاهرة.... قلت لها شكرا قبل أن تسألني مبسوط وأنت وحدك؟...
في الميدان قابلت كثيرين من أكثر من أعرف تميزا من الناس في مجالات متعددة.... فحقيقة كما أشرت من قبل كان القاسم المشترك بين كل من قابلت من أصدقائي أو معارفي في التحرير هو التميز!.... لم تزل الأفواج تتوافد على الميدان وتعرف من لهجاتهم أن محافظات مصر كلها ممثلة... فليس فقط المعتصمون المقيمون في الميدان هم الذين يمثلون كل مدن مصر تقريبا وإنما أيضًا الوفود تأتي من كل المدن فيما أصبح يشبه السياحة التظاهرية، وقد عرفت من كثيرين أنه يوميا تأتي مثل هذه الوفود فيبقى البعض ويرجع البعض مدنهم.... لكن الواضح هو أن روحا جديدة قد دخلت روع المصريين فأصبحوا بالفعل مختلفين عن المصريين الذين عرفناهم على مدار العقود..... إذن فقد كان لما فعله شباب 25 يناير 2011 أثرا سحريا على كل مصر.
صليت الظهر في مسجد عمر مكرم ولم يكد الإمام يسلم حتى قام من دعا المسافرين إلى صلاة العصر قصرا فصليت معهم، ثم خرجت مرة أخرى إلى الميدان ولما أزال أتنقل بين تجمعات المتظاهرين وألتقط الصور للجموع ولبعض الشعارات وأيضًا لسيارات الشرطة أو الأمن المركزي المحترقة وقيل لي أن هذه السيارة المحترقة بجوار المسجد هي التي ظهرت في الجزيرة وهي ترش الماء على جموع المصلين لتفريقهم،...... وعندما نبهني سائقي إلى أن الساعة أصبحت الواحدة والنصف وأن علينا أن نتحرك الآن لأحضر الاجتماع مع الزملاء... في ذلك الوقت كان واضحا أن عدد الموجودين في الميدان تضاعف ثلاث مرات على الأقل...
خرجنا من الميدان ولم ننس المرور بالشارع الذي قيل لي أن فيه بقايا الرصاص المطاطي والرصاص الناشر للشظايا وجمعت عددا لا بأس به من مختلف الألوان والأنواع وتذكرت ساعتها قنابل الغاز المسيل للدموع التي كنت أجمعها أثناء الدراسة الجامعية وتذكرت القنابل الأخيرة التي ألقيت علينا يوم جمعة الغضب في الزقازيق،... وبينما رائحة الميدان الزكية ما تزال في أنفي فاجأتني هتافات تأتي من جهة اليسار فنظرت فإذا تظاهرة هائلة أمام مبنى مجلس الشعب ومبنى مجلس الشورى، لكننا عندما مررنا بمبنى روزاليوسف كان الاعتصام قد انفض فسألت أحد الواقفين أمام الباب عن التجمع الذي كان موجودا في الصباح فقال لي لبيت مطالبنا وأخيرا وصلنا إلى مكان اجتماعنا في نادي أعضاء المهن الطبية الموجود خلف نقابة الأطباء –دار الحكمة- بشارع صغير موازٍ لشارع قصر العيني... وقد حضر الاجتماع الأساتذة أحمد شوقي العقباوي وإسماعيل يوسف وأنا ومن الاستشاريين د. خليل فاضل ود. أحمد عبد الله ومن مستشفى العباسية حضر د. احمد عاطف فايد، وكان اجتماعنا مثمرا عرفت فيه أنني لست وحدي الذي تغلبه الدموع وتجيش مشاعره وإنما الجميع كذلك حتى أن بعضنا اشتكى من أنه لا يستطيع النوم، وكان في ذلك ما طمأنني على حالتي النفسية فهاهم الأطباء النفسانيون مثلي أيضًا.... واختصارا أنقل لكم هنا ملخصا كتبه ابن عبد الله لما دار في الاجتماع وما اتفقنا عليه:
إنه في يوم الأربعاء التاسع من نوفمبر من عام 2011 اجتمع استشاريون للطب النفسي للتدوال في شأن تطورات الثورة المصرية التي يشهدها الوطن من حيث محاولة فهمها، وكذلك تحديد ما يتوجب عليهم تقديمه على خلفية التخصص، ومن قبله الانتماء للوطن، في شأن تصورهم لما حصل ويحصل قيل:
- إننا أمام حركة شباب تحولت لثورة شعب بكل طوائفه وأجياله، في حالة غير مسبوقة عبر التاريخ المصري وأن أدواتنا في التحليل، وخبراتنا السابقة تحتاج إلى تجديدٍ يمكننا معه فهم أفضل لما يجري، وتحديد أدق لما يمكننا تقديمه.
- كما قيل أيضا أن هذه الثورة المباركة تواجه تحديات كبيرة، ومحاولات إجهاض في إطار الصراع الدائر بين شبابها ومن حولهم جماهير الشعب المتعاطف معهم ومعها في جانب، وبقايا المنظومات القديمة في التفكير والسلطة.
- وأن أمام الثورة منعطفات واختبارات في قدرتها على المواصلة الفعالة من جانب، في مواجهة التعويق، وفي قدرتها على التفاوض الفعال لتحقيق غاياتها، وانتزاع المكاسب التي قامت من أجلها،
- لاحظ المشاركون أيضا أن هناك مناخا من الإثارة والتوتر، بإيجابياته وسلبياته، وأنه يوجد وضع من التشويش الذهني العالي عند الكثير من المواطنين، يصل عند البعض إلى مستوى الانهيار النفسي، ورصدت أعراض اضطراب الكرب الحاد Acute Stress Disorder وبمستويات من الشدة ومظاهر توحي بأننا سنشهد كثيرين في مصر مصابين باضطراب ما بعد الصدمة أو الكرب التالي للرضح Post Traumatic Stress Disorder ، بل ورصد بعضنا أعراضا ذهانية من هلاوس وغيرها.. في حالات راجعت العيادات النفسية خلال الفترة القليلة السابقة إضافة إلى تسجيل عددٍ من الانتكاسات في المرضى السابقين.
- بالمقابل أدلى بعض مرضانا بشهادات توجد تحسنا طرأ على الأعراض التي كانوا يشتكون منها، وحصل هذا التحسن من خلال المشاركة في الحشود والتجمعات التي حصلت منذ الخامس والعشرين من يناير المنصرم
وبناءا على ما تقدم رأى المشاركون أن الجهد الذي نستطيع تقديمه يتلخص مبدئيا فيما يلي:
- إتاحة خدمة الدعم والعلاج النفسي لمن يحتاجها سواءا عبر وسائط الاتصال المتنوعة، أو عبر الفحص الإكلينيكي بالعيادات لمن يريد، والتواجد قرب مواقع الأحداث، بحسب القدرة والاستطاعة، لتقديم الخدمة العلاجية مباشرة.
- التواصل مع جماهير الشباب والشعب لتطوير الفهم والممارسة بصدد تحسين شروط وأفكار وخطط عملية التفاوض للوصول إلى أفضل نتائج ممكنة تجاوزا لأزمة ثقة واضحة بين أطرافه، ومناخات غير مواتية، وفجوة جيلية كبيرة تفرض فجوات في اللغات المستخدمة، والتصورات الحاكمة، وانطباعات تحتاج لتفكيك وتغيير.
- وربما نستطيع أحيانا تلخيص ما لدينا في شكل وصايا للشباب والشعب الثائر، وجموع المتعاطفين مع الثورة، وزاد البعض كلاما عن توجيه وصايا للأطراف على الضفة الأخرى.
- وتوافق المشاركون على إعلان عملهم هذا، وتوسيع دائرة الدعوة له، وسط المتخصصين من أطباء النفس أو علماء النفس والاختصاصيين النفسانيين، وعبر وسائل الإعلام المختلفة، وتم تشكيل مجموعة على الموقع الاجتماعي الفيسبوك لخدمة هذه الأهداف واسمها مجموعة نفسانيون من أجل الثورة المصرية واتفقنا على ظهر السبت القادم ليكون موعدا للاجتماع القادم.
عرفت من د. خليل فاضل أن مظاهرة ضخمة خرجت في طريق صلاح سالم أمام مبنى الجهاز المركزي للمحاسبات وأخرى عند الكلية الحربية.... وأن عمالا في بعض المصانع خارج القاهرة أضربوا وأن الصدام مشتعل بين متظاهرين والشرطة في محافظة الوادي الجديد هناك في جنوب مصر... حقيقة بدأت أشعر بالقلق والخوف واستشعرت أن براكين الشعب المصري فارت أو هي على وشك الفوران.... ولما أزل أدعو الله أن يحفظ مصر حتى وصلت إلى عيادتي في مصر الجديدة من طرق خلفية لأن الطرق الرئيسية مغلقة وحين وصلت كنت متأخرا ساعة عن موعدي لأن الاختناقات المرورية لم تغب عن شارع واحد من الشوارع التي مررنا بها.... مصر يا رب مصر من غيرك يحفظها يا الله.
أنجزت مرضاي واكتشفت والساعة التاسعة مساء أنني لم آكل ولم أشعر بالجوع واستغربت ذلك فلما سألت زوجتي قالت: من له شهية للأكل اليوم؟ قلت لها أنا لا أشعر بالجوع حتى وليست مسألة شهية! ثم انتبهت إلى أن الأمر يبدو وكأنه تعدى حدود القلق أو سوء المزاج الذي عادة ما يزيد الناس جوعا..... أمضيت وقتا في البحث عن طريقة عمل مجموعة جديدة على الفيسبوك لأنني كلفت بذلك أثناء الاجتماع عصر اليوم ولما أزال أبحث وأحاول حتى انتبهت والساعة تقترب من منتصف الليل والحمد لله كنت قد أنشأت المجموعة واتصلت بابن عبد الله الذي كان مكلفا بصياغة وتلخيص ما اتفقنا عليه في اجتماعنا وأخيرا وصلني ما كتبه أحمد وأرسلته إلى د. جمال التركي ذلك الفأل التونسي الطيب لينشر ملخص ما جاء في اجتماعنا عبر شبكة بريد الشبكة العربية للعلوم النفسية.... بينما زوجتي تقول أنت استيقظت اليوم مبكرا جدا وكفاك إرهاقا.... دمعت عيناي وأنا أقول كم عند الله يفضلني المعتصمون الآن في التحرير!
يتبع : .............. ساخن من مصر أيام الغضب الخميس3
واقرأ أيضاً:
حديث ما بعد الثورة/ ماذا بعد الرحيل؟؟ بعد الفراق؟/ ما هو التوازن الذي نحتاجه؟