ساخن من مصر أيام الغضب: الأربعاء3
في الصباح هذا اليوم كان القلق والتوجس بل وشيء من الوجوم يسود أجواء القاهرة كما أحسست أنا... كانت أنباء الشهداء الجدد في الوادي الجديد تعني أن جهاز الشرطة ما يزال قادرا وسادرا في ممارسة دوره الدنيء القديم.... وكان الخوف من أن ينقض على ثورة الشباب من لا يحسنون الاحتجاج سلميا.... كنت بشدة أخاف على ما بنته مصر ونهبت وهي تبنيه أخاف أن يدمره الغاضبون... وكانت الأمور منذ الأربعاء الثالث للثورة قد بدأت تأخذ شكلا آخر.... صحيح أنها مشاركة في ثورة الشباب وصحيح أنها سرعت وتيرة الأحداث لكنني كنت متوجسا في الصباح.
اتصل بي صديقي الأخصائي النفسي أ. عبد الرحيم الريفي والذي عرفته إبان المهمة التي أنعم الله علينا بها في غزة ففاجأني بأخلاقه ودينه وشجاعته وإخلاصه،.... كان كأنه شاركنا عبد الرحيم في الإعلان الذي أصدرناه عن تشكيل مجموعة "نفسانيون من أجل الثورة المصرية"... وتساءلنا عن الأدوار التي نستطيع القيام بها؟ كلمني عن حاجة أسر شهداء الثورة للمساندة والدعم النفسي في هذا الوقت.... وقلت له إن شاء الله جاهزون..... وأوصلته لأخي د. محمد المهدي رئيس شعبة طب نفسي الطوارئ والكوارث بالجمعية المصرية للطب النفسي...... وسألته منذ متى وأنت في التحرير؟ وعرفت أنه منذ يوم الجمعة معتصم مع المعتصمين.. ثم تساءلت في نفسي كان مفترضا أن أعرف أنه في التحرير أليس عبد الرحيم أحد المتميزين الذين أعرفهم؟...
أثناء النهار كثر الحديث عن المذبحة الأمنية المتوقعة غدا الجمعة تلك الجمعة التي سموها جمعة الزحف ويقصد بها الحركة.... جاءت أنباء عن بداية انتشار لقوات الشرطة وعن إعادة انتشار قوات الجيش لتحفظ الأماكن الحيوية.... وفي نفس الوقت تداعت الجماهير إلى التحرير وأعلن عن استعدادات للتظاهر في التحرير من نقابات ومن مجموعات ومن ممثلي مدن في مصر.... ويتوقع الكل أن غدا سيكون يوما صعبا بكل المقاييس.
قلوب الكل في مصر وجلة وبقيت هكذا معظم النهار.... وحين نزلت لصلاة الظهر في مسجد عبد السلام ترك المجاور لعيادتي بمصر الجديدة.... فاجأني أن الذي وقف بجانبي يصلي كان ضابط شرطة بلباسهم الأسود.. شعرت بالضيق الشديد وبالرغبة في أن أبتعد عنه.... ولكنني تمالكت نفسي وقلت هو في بيت الله وليس من حقي أن أظهر استيائي وقلت لعله من غير أولئك المجرمين المدربين على الإجرام بحق الشعب في قطاع الأمن المركزي، وبمنتهى الصدق أسعدني أنه قام مباشرة بعدما سلم الإمام فلم يمد يده إلى أحد لا عن يمينه ولا عن يساره... قلت في نفسي لعله يتحاشى الاصطدام بالناس، ختمت صلاتي وصليت ركعتي السنة ورجعت إلى عيادتي.
لم أكد أتجهز للعودة إلى الزقازيق لمرض زوجتي وركبنا السيارة مارين من أمام قصر العروبة الرئاسي وقد أحيط من كل جانب بالدبابات وما هي إلا دقائق وسمعنا عن انعقاد المجلس العسكري الأعلى للقوات المسلحة بدون مبارك، وأن المجلس العسكري الأعلى سيلقي بيانا هاما للشعب.... ارتفعت معنوياتنا كثيرا وتوقعنا أن يحسم الجيش موقفه ويحقن الدماء، وكان أكثر ما أثارني واستبشرت به هو أنني أسير في نفس الطريق الذي وهو طريق صلاح سالم أو شارع العبور وكان مسير المرور مشلولا ونحن الآن في نفس الطريق ونفس هذه الظروف المطر والاختناق المروي وهو ما كنا فيه عندما خلع الناس زين العابدين بن علي منذ أربعة أسابيع يوم الجمعة 14 يناير 2011 .......
ثم جاء البيان الأول للمجلس العسكري محبطا لم يقل شيئا مما ينادي ويصر عليه الناس هو فقط طمأنهم أنه لن يتعرض لهم،..... وبعد قليل جاءت تصريحات لأمين الحزب الحاكم الجديد يقول فيه أن الرئيس مبارك سيستجيب لمطالب الشعب، وبعدها بقليل أعلن أن الرئيس سيلقي كلمة هامة للشعب الليلة، ثم أعلن أنه يجتمع الآن بنائبه... ثم أعلن أنه يجتمع الآن برئيس الوزراء..... وفهمنا أن الرجل تعقل وسوف يحقن الدماء.. ثم تبين بعد ذلك أنهم لم يقصدوا ما فهمه الناس فقام أمين الحزب بتفسير ما قاله من أن الرئيس سيستجيب لمطالب الشعب بأنه سيفعل كل شيء ولكن مع الاستمرار في سدة الحكم، ثم قام السيد رئيس الوزراء بإعلان أن كل شيء في يد الرئيس كي لا يتخيل أحد أن هناك معنى لغيابه عن المجلس العسكري الأعلى للقوات المسلحة الذي أعلن بقاءه في حالة انعقاد دائم....
يرغم كل هذا بقي أمل كبير عند الناس في أن يستجيب الرجل وينهي هذه الحالة العصيبة، ورغم تكذيب وزير الإعلام لوجود أي نية لدى الرئيس للتنحي فإن كثيرين ظلوا يأملون أن يتصرف مبارك بحكمة فلا أحد يمكنه أن يترك الأمور تتصاعد بهذا الشكل..... بدا واضحا جدا أن تعذيب الشعب مقصود.... ثم أعلن أن الرئيس مبارك سيلقي كلمة هامة للشعب وذلك في الحادية عشرة بتوقيت مكة المكرمة وأحسبها المرة الأولى التي يعلن فيها الإعلام المصري عن شيء بتوقيت مكة المكرمة وليس توقيت القاهرة! لم أفهم ولم يفهم أحد لماذا... لكن ربما إدراك لأهمية ما سيقول لكل العرب والمسلمين باعتباره يمس حالة مصر وهذا ما يتناقض تناقضا صارخا مع كل مواقفه السابقة منذ بداية الأزمة وربما من قبلها فهو لا يشعر أبدا ولا يشعر أحدا بأهمية مصر!.... بعد قليل أعلن أن الكلمة التي سيلقيها هي كلمة مسجلة منذ وقت مبكر هذا اليوم! ويبقى سؤال لماذا تلقى مسجلة؟ بلا إجابة!
ثم حانت العاشرة مساء بتوقيت القاهرة ولم يذع الإعلام المصري الكلمة وبدا ذلك أيضًا مستغربا لأن المفترض هو أن الكلمة مسجلة وجاهزة؟ لماذا التأخير؟ لا إجابة أيضاً... ثم أخيرا... أخيرا طلع الرجل لكي لا يقول شيئا جديدا تقريبا وبدا مستهينا بشكل عجيب بعقول الناس وبمصر وبدا وكأنه يقول: قلت أني لن أتنحى ولن أتنحى ومن لا يعجبه يخبط رأسه في الحائط... هل جن هذا الرجل هل هو سليم عقليا؟ إن ما قاله في هذه الكلمة يبدو غبيا جدا.... هذا الموقف ليس ذكيا بالمرة بل هو غبي بائس شرير حتى لكأنه يكتب بالبنط العريض أنا أكره مصر ولا يعنيني إلا نفسي .... يثبت أنه الفرعون الخائن مرة أخرى....
يبدو أن الخبراء النفسانيين الذين كتبوا له الكلمة السابقة قد تركوه وخرجوا عليه، أو أن كم الشرِّ الذي تتسم به نفس صاحب هذه الكلمة يفوق الحدود، فمن المستحيل أن يكون هذا الشخص على معرفة حقيقية بما يجري في مصر فإن كان فإنه بالتأكيد يكره مصر والمصريين وكما قال هيكل فإنه وحش جريح وسينتقم... ثم أنه لم يتنحَ وإنما فقط فوَّض صلاحيات الرئيس للنائب بحسب ما يتيح الدستور، بالضبط كأنه ذاهب في رحلة علاجية وأراد أن يفوض مسئولياته لأحد رجاله المقربين وليكسب تعاطف الشعب الطيب.... ثم أنه يمكن بعد أن تهدأ الناس مخدوعة يمكنه بلحظة واحدة أن يلغي التفويض ويستعيد سلطاته بنفسه في أي وقت و"كأنك يا أبو زيت ما غزيت" مثلما نقول في مصر.... لكن لا...لا... مستحيل أنه يعتقد أننا لا نفهم ولا نعي شيئا إلى هذا الحد، هذا الرجل أو من كتب له الخطاب أراد استفزاز الشعب المصري وأسأل الله أن يحفظ الشعب وأن يحفظ مصر، فأنا أخاف حتى من مجرد حدوث ما أتوقعه من تزاحم أثناء الزحف، ناهيك عن الخوف من انفلات قوات الحرس الجمهوري أو الشرطة أو البلطجية على المتظاهرين غدا في جمعة الزحف...
وأتذكر ما قرأت في ميدان التحرير: أنصاف الثورات مقابر الشعوب... وهذه حقيقة يثبتها التحليل الهادئ لمواقف الفرعون فهو ما يزال يحاول إبقاء الشعب في قبضته وإقناع المتظاهرين بالعودة... ثم يبدأ بالتنكيل... إذن علينا أن نكمل ما بدأناه...... وحسبنا الله ونعم الوكيل في مخلوق يأبى الخالق سبحانه إلا أن يجعله عبرة للعالمين!، هذا الرجل لا يستحق إلا أن يحيق به ما حاق بفرعون وجنده.... وأكرر وأذكر أنه الفرعون الخائن الأول في التاريخ!.... إياكم والتوقف! استمروا يا كل أهل مصر.
كلمات وخطب الناس في الجزيرة ليلة الجمعة كانت كلها مصدومة من الكلمة وخائفة من البطش أو إيقاع الناس في فخ من خلال نائبه رجل المخابرات المخضرم..... يا ستار يا رب كل هذا الإحباط! أحبط كل المصريين بل كل العرب... وأفكر جديا ماذا لو فكرنا في القوى العقلية لهذا الرجل فإذا كان يصدق فعلا أن المسألة مسألة قلة من بني وطنه فتلك مصيبة لأنها ستعني إما أن رئيس البلاد مغيب أو أنه يعتقد اعتقادا خاطئا ولا يستطيع أن يغيره رغم الأحداث الواضحة لكل ذي منطق وربما هو لا يقبل النقاش وتصبح الفكرة فكرة وهامية Delusional Thought ، وأما إن كان يعرف أنه تكادُ كل الكائنات الحية في مصر تكرهه وكل الجمادات كذلك ويصر على الاستهانة بكل هذا وبكل ما يمكن أن تتعرض له مصر فإن المصيبة أعظم! أمثال هذا لا يصح أن يحكموا البلاد!
يتبع : .............. ساخن من مصر: أيام الغضب جمعة الزحف
واقرأ أيضاً:
ساخن من مصر: أيام الغضب الأربعاء/ ما هو التوازن الذي نحتاجه؟