الاستغفار ليس كلمات جوفاء يكررها اللسان، وليس حالةً من الدروشة.. بل هي التفات إلى الذات وبحث عن الخلل في نفوسنا التي بين جنوبنا.. الاستغفار يعني إقراراً بالمسئولية عما يواجهنا في حياتنا من مصائب، وأنها بما كسبت أيدينا، وبذلك ينتقل الإنسان من إلقاء اللوم على الظروف الخارجية إلى البحث في داخل عن نفسه عن موطن الخلل لإصلاحه..
البشر يتقنون صنعة تنزيه أنفسهم، ولا يعدمون إيجاد جهة خارجية لتحميلها المسئولية، فإذا سألت طالباً فاشلاً عن سبب رسوبه قال: المادة معقدة، أو إن المعلم لا يحسن الشرح، أو إن الامتحان جاء صعباً، أو إنه كان يمر بظروف اجتماعية قاهرة، أو إنه القضاء والقدر الذي حتم عليه أن يكون فاشلاً، وهكذا يذهب في كل اتجاه للعثور على سبب يحمله مسئولية فشله، إلا أن يذهب إلى السبب البسيط والمباشر وهو أنه كان مقصراً ولم يستعد بما فيه الكفاية لهذا الامتحان..
وما ينطبق على صاحبنا الطالب الفاشل ينطبق على أكثر الناس في مختلف مواقعهم حين يكون الحديث عن أي مصاب أصابهم سواءً كان فشلاً في دراسة أو زواج أو وظيفة أو علاقة اجتماعية أو صفقة تجارية، كما أنه ينطبق على البشر في مختلف المستويات الفردية والجماعية، فالشعوب العربية تحمل حكامها مسئولية كل مصيبة في الأرض أو في أنفسهم، والحكام يحملون المسئولية للمؤامرة العالمية ، والشرق يحمل الغرب مسئولية الاستعمار والنكبات التي أصابت بلادنا، والغرب بدوره يحمل الشرق مسئولية الإرهاب والتخلف..
إنه السير على خطى إبليس الذي لم يجد حرجاً في أن يحمل سبب خطئه للخالق سبحانه وتعالى في سبيل أن ينزه نفسه "قال فبما أغويتني"، وقبلها قال "أنا خير منه" فكانت النتيجة "فاخرج منها فإنك رجيم وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين"..
بينما نجد في المقابل مثال أبينا آدم عليه السلام يتجسد فيه النقد الذاتي الصارم والشجاعة في تحمل المسئولية "ربنا ظلمنا أنفسنا".. فكانت النتيجة هي المغفرة والرحمة "فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه"..
لكن واقع بني آدم يقول إنهم زهدوا في طريق أبيهم، واتبعوا طريق عدوهم إبليس..
يبحث الناس عن أسباب خارجية يحملونها مسئولية أخطائهم لينزهوا أنفسهم ويبرئوها ولكنهم حين يفعلون ذلك فإنهم لا يزدادون من الحل إلا بعداً، ويبتعدون عن طريق المغفرة والرحمة، ويقتربون من طريق اللعنة والرجم التي نالت إبليس لأن تحميل الآخرين المسئولية يعني أننا نحن على ما يرام، وأنه لا داعي لأن نراجع أنفسنا ، فما دام الآخر هو الذي يتحمل المسئولية فإن عليه أن يتدخل لتغيير الواقع الذي صنعه، أما نحن فقد أدينا كل الذي علينا، وعلينا أن نقعد أو ننام في انتظار أن يأتي الفرج من السماء أو من الآخرين..
إن إعفاء النفس من المسئولية وصفة مثالية للقعود والكسل والسلبية، ولإغلاق أي طريق للحل فلا تغيير ولا تصحيح..
تحميل النفس المسئولية ضروري لمن يبحث عن الحل لأن الإنسان يملك سلطاناً على نفسه أن يغيرها، ولكنه لا يملك سلطاناً على الآخرين حتى يغير ما بنفوسهم، فمن اعتقد أن الحل يأتي من داخل نفسه هو أقرب إليه من ذلك الذي يعتقد أنه يأتي من الآخرين، لأن من يعتقد أن الحل موجود في داخله سيبدأ العمل والسعي والمراجعة الدائبة لنفسه حتى يصل إليه، وأما ذلك الفريق الثاني الذي يظن أن المشكلة عند الآخرين فسوف ينام طويلاً في انتظار أن يأتي الفرج..
الفرق بين منهج آدم "ظلمنا أنفسنا"، ومنهج إبليس "بما أغويتني" هو أن طريق آدم يفتح الباب واسعاً لمراجعة الذات وإصلاح الخطأ ومن ثم تطوير الواقع والارتقاء به، وسد ثغرات الخلل والقصور.. بينما طريق إبليس يغلق الباب أمام أي حل ويبقي الإنسان في حالة من الكبر والعناد يغلق معها منافذ الفهم والمراجعة فيكون الهلاك والتردي..
يقول مالك بن نبي رحمه الله فيما معناه إنه بمقدار ما يكثر الحديث عن الذات، ويقل الحديث عن العامل الخارجي بمقدار ما نقترب من الحضارة، وهذا المنهج الرائع غير مألوف في عالمنا العربي، فنسمع عن الأجندات الخارجية، والمؤامرة الدولية، وإسرائيل والاستعمار وعن إرادة الله الغالبة-في السياق السلبي وليس الإيجابي-، ولكن قليلاً ما ترى من يتحمل الشجاعة ليقول إننا نحن المخطئون.
وفي خطابات الزعماء السياسيين التي تدغدغ عواطف الشعوب يكثرون من استعمال مصطلحات مثل أيها الشعب البطل، أيتها الجماهير الأبية، ولكننا لا نسمع سياسياً يقول: "أيها الشعب تعالوا بنا نغير ما بأنفسنا"..
إن لوم النفس هو عمل شاق ولا شك، وأسهل منه أن نستخدم الخطاب العاطفي الذي ينفش الذات ويسكرها ، ولكن لوم النفس مع ثقله فهو الطريق الوحيد ولا طريق سواه للخلاص من الأزمات ولإحداث اختراق حقيقي في حالة الجمود التي تحياها الأمة على كافة المستويات.
إن الحقيقة المرة خيرٌ ألف مرة من الوهم المريح..
هل تدبرنا يوماً في دلالة حث النبي محمد لنا بأن نحثو في وجه المداحين التراب؟؟
لأن المدح وإن كان حقاً فإنه غالباً ما يغر الإنسان ويدفعه للكسل والتراخي، بينما النقد وإن كان مر المذاق فإنه يستفز الإنسان لأن يراجع نفسه ويصحح مساره.
لقد أقسم القرآن بالنفس اللوامة التي تكثر من لوم صاحبها حتى يصبح هذا اللوم عادةً راسخةً "ولا أقسم بالنفس اللوامة". الاستغفار هو طريق النجاة "فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين"..
وحين يقول القرآن "وكذلك ننجي المؤمنين" فهذا يعني أنه قانون مطرد وليس معجزةً خاصةً بيونس عليه السلام، فيمكن أن نعثر في القصة على محتوى سنني علمي يضاف إلى المحتوى الإيماني والغيبي..
ما علاقة أن يتهم الإنسان نفسه بالظلم، وبين أن ينجو من الأزمات؟؟
إن اتهام النفس بالظلم يستفزها للمراجعة الجادة وللبحث في كل الزوايا عن موطن الخلل، فيؤدي هذا البحث الجاد إلى العثور على موطن الخرق ورتقه فتنجو السفينة من الغرق..
الإنسان العاقل يختصر العناء ويتقدم نحو حل بسيط وهو تحميل نفسه المسئولية "قل هو من عند أنفسكم".. المشكلة ليست في الناس ولا في الظروف ولا حتى في الشيطان "وما كان له عليكم من سلطان"..أنا من يتحمل المسئولية وكل ما أواجهه من أخطاء فهو بما كسبت يداي، وإذا أردت أن أغير الواقع نحو الأفضل فإنني أملك ذلك دون أن أسب العالم وأتذمر منه وأضجر منه، وما علي إلا أن أصحح مساري وأراجع أخطائي..
بالاستغفار يكون التوافق النفسي الداخلي، لأن من يظن أن المشكلة في نفسه وليست في الآخرين لن ينظر إلى الكون نظرةً عدائيةً بأنه السبب في تعاسته، بل سينظر إليه نظرةً توافقيةً بأن هذا الكون بما فيه مسخر له، وأن كل ما عليه هو أن يغير ما بنفسه حتى تتغير الدنيا من حوله "غير ما بنفسك يتغير وجه التاريخ، وبذلك يكون المستغفر منسجماً مع الكون ومتناسقاً مع ناموسه العام..
من يظن أن الظروف التعيسة، والحظ السيء، والناس الشريرين هم سبب معاناته فإنه سيعيش في حالة ضجر وتذمر وسخط لا تنقطع، أما من يتغلب على هواه فيحمل نفسه المسئولية فإنه سيشعر بالراحة والطمأنينة والتوافق مع نفسه ومع المجتمع..
الاستغفار هو فعل إيجابي تقوم فلسفته على إدانة النفس وكسر كبرها وإبطال ظنها الكمال والقداسة، والبحث في ثناياها عن مكامن الخلل والقصور، ومن يسلك هذه الطريق وحده من يستطيع أن يتجاوز أخطاءه ويصحح مساره..
إن الطريق الوحيد للخلاص من واقعنا المتأزم وللخروج من الظلمات إلى النور هو أن نحيي معنى الاستغفار الحقيقي في حياتنا..
والله أعلم..
واقرأ أيضاً:
القرآن يتحدى مشاركة / المألوفات والممكنات / المرض النفسي دور الإيمان والعلاج بالقرآن / أفلا يتدبرون القرآن؟!