أكملت الثورة على الظلم في سورية شهرها السابع، والحال كما يبدو ظاهرياً يراوح في مكانه، مظاهرات طيارة سريعة تهدف إلى تسجيل هدف في مرمى النظام، يقابلها عمليات قتل واعتقال وتعذيب حتى الموت، بل وتهديد بخطف النساء وانتهاك الأعراض من أجل بث الرعب في النفوس، المجتمع الدولي مستمر في حربه الكلامية على النظام وفي فرض عقوبات لا تسمن ولا تغني من جوع، والثائرون في سورية يستجيرون بالحماية الدولية، حتى إذا يئسوا من البشر لجؤوا إلى رب البشر فكان هتافهم (ما لنا غيرك يا الله). وفي نفس الوقت يتمرد بعض الجنود والضباط الصغار على الأوامر المعطاة لهم بقتل المتظاهرين، وينتهي التمرد بتصفية أكثرهم وفرار البعض وتشكيله كتائب تريد القيام بعمليات انتقام ضد الأمن والشبيحة. أمريكا وأوربا تحاولان استصدار قرار إدانة للنظام السوري وتهديد له من مجلس الأمن فتتبارى روسيا والصين في استخدام الفيتو ضد هذا القرار، وهذا يزيد النظام غروراً واستخفافاً بالذي يجري وإمعاناً في المكابرة ومحاولة القضاء على الثورة بدل الاعتراف بها والتحاور الجدي معها.
الذين قاموا بالثورة في سورية هم شباب قرروا العيش بكرامة أو الموت في سبيل الله، ولم يعد الخوف كافياً ليبقيهم خانعين خاضعين ومستسلمين للظلم والتهميش. هؤلاء الأبطال لديهم الكثير من النوايا الطيبة المخلصة لكن حنكتهم السياسية ما تزال أقل من همتهم وبطولتهم، وبخاصة أن النظام الذي حرَّم على الناس ممارسة السياسة في سورية منذ ثمانية وأربعين سنة، لم يسمح لنمو طبيعي للوعي السياسي في البلاد، وإن كان الشباب فاقوا كل التوقعات من حيث وعيهم واستبسالهم.
في هذا المناخ يبقى المجال مفتوحاً لمن يريد الاصطياد في الماء العكر، سواء من قبل النظام أو من قبل بعض القوى الدولية التي تريد اغتنام الفرصة لتحقيق أهدافها الخاصة في منطقتنا. النظام يخوف الطوائف غير السنية ويخوف العلمانيين في سورية من سقوطه ومجيء حكومة متطرفة على النمط الإيراني الذي يضيِّق على الحريات الشخصية والسياسية باسم الإسلام، كما يقوم النظام في نفس الوقت بمحاولة إشعال فتنة طائفية بين السنة والعلويين لعلها تكون طوق نجاة له، كما يحاول استفزاز الثائرين وجرهم إلى التورط في العنف وحمل السلاح كي تتغير قواعد اللعبة إلى لعبة هو ماهر فيها وقادر على المغالبة والانتصار. وبالمقابل تحاول أمريكا استغلال الظروف كي تخلق رأياً عاماً في سوريا مرحباً بتدخلها عسكرياً للإطاحة بالنظام والإتيان بنظام غيره، نظام نحن نحلم أن يكون نظاماً مخلصاً وأميناً على مصالح الأمة، وأمريكا تحلم أن يكون عميلاً لها ينفذ سياساتها ويحمي اسرائيل.
الحيرة والتخبط واضحان هذه الأيام في تناقض الأصوات المطالبة بحماية دولية للمتظاهرين والرافضة للتدخل العسكري إلىى الأصوات المطالبة بحمل السلاح لمواجهة نظام لا يفهم لغة أخرى غير لغة القوة، مع أصوات تؤكد على سلمية الثورة وبعدها عن الطائفية. في غمرة هذا التخبط وهذه الحيرة رفع المتظاهرون لافتات تطالب بتدخل أجنبي في بلادهم، أي بالعودة إلى عصر الاستعمار المباشر، وهم ما كانوا ليطالبوا بذلك لو علموا ما وراء الرغبة الأمريكية المعلنة في مناصرة الثورة السورية عسكرياً، ولو علموا أنهم في غنىً عنها وسينتصرون من دونها.
على الرغم من أن حرباً أهلية حصدت عشرات الألوف من الشهداء في ليبيا واستهلكت مليارات كثيرة من الدولارات وأعطت امتيازات لأمريكا وفرنسا في نفط ليبيا إلا أن ترفُّع القوى الغربية عن احتلال ليبيا أو تقسيمها أوْهَم الكثيرين منا أن الدول الغربية يمكن أن تساعدنا دون أن تحتل أرضنا أو تقسم بلدنا. والحقيقة أنهم لا يهمهم من ليبيا إلا نفطها بينما سورية ذاتها مهمة لهم رغم فقرها في النفط وغيره من الثروات الطبيعية. الأرض السورية والأمة السورية هي ما تريد أمريكا أن تسيطر عليه لا النفط ولا غيره. لقد ضمنوا السيطرة على النفط الليبي لأجيال مقابل معونتهم للثوار الليبيين في القضاء على نظام القذافي، وهم ليسوا في حاجة إلى توسيخ أيديهم باحتلال مباشر لليبيا التي لا تهمهم صحراؤها الشاسعة إلا بما تحويه في باطنها من نفط. إن احتلال بلد شاسع مثل ليبيا والمحافظة عليه محتلاً سيكون أمراً مرهقاً ومكلفاً لهم ولن يعطيهم من المنافع أكثر مما أخذوه دون أن يتورطوا ويكسبوا سواد الوجه.
سوريا مختلفة عن ليبيا من حيث موقعها الاستراتيجي وصغر مساحتها وتشكيلتها الطائفية والعرقية وجوارها لإسرائيل. من يسيطر على سورية ويضع قواعده العسكرية فيها يسيطر على الشرق الأوسط بكامله، فهي تتوسط هذا الشرق الأوسط وتقع في القلب منه. منذ سنين طويلة والأمريكان يحلمون باحتلال سورية لكنهم كانوا خائفين من رفض السوريين لهم ومقاومتهم لاحتلالهم على اختلاف طوائفهم وأديانهم وأعراقهم، لقد دخلت القوات الأمريكية إلى العراق واستقبلها بالترحاب ثلثا الشعب العراقي من أكراد وشيعة، ومع ذلك أرهقت المقاومة التي لم تكن متوقعة كل خططهم في العراق، وجعلت بقاءهم فيه مكلفاً جداً لهم. هذا لا يعني أنهم لم يحققوا شيئاً مما احتلوا العراق من أجله، فالعراق أصبح مقسماً إلى ثلاث دويلات تماماً كما كانت تحلم إسرائيل: دولة كردية، ودولة شيعية، ودولة سنية، وإن كانت شكلياً متحدة اتحاداً فيدرالياً ضعيفاً.
ارجعوا إلى كتيب خنجر إسرائيل الذي نشره صحفي هندي في أوائل الستينات قبل هزيمة سبع وستين بعدة سنين لتروا ما تحلم به اسرائيل، من تقسيم لمنطقتنا إلى دويلات طائفية متناحرة تكون إسرائيل بينها بمثابة دولة عظمى متحكمة، ويكون في ذلك ضمان لبقائها وأمنها وازدهارها.
لقد قرأت هذا الكتيب بعد هزيمتنا في حزيران سبعة وستين ربما بسنة أو أكثر، وكنت قبل حرب حزيران أراه معلقاً مع مجلات سوبرمان وميكي ماوس التي كان يبيعها رجل في حيينا ضمن ما يبيعه مما يرغب به الأولاد من حلوى وألعاب، وكان الكتيب تزينه فضلات الذباب من طول الزمن الذي عرض فيه دون أن يجد من يشتريه، كنت أشتري مجلات سوبرمان وقصص الأطفال ولم تراودني فكرة شراء هذا الكتيب الذي كان على غلافه صورة خنجر يقطر دماً، وحتى عندما قرأته بعد ذلك كانت نسخة أعارني إياها مدرس فلسطيني متقاعد، وقد ذهلت بما وجدت فيه.
كان فيه خطة إسرائيل لاحتلال الجولان والضفة الغربية وسيناء ثم إرجاعها مقابل السلام والتطبيع، وكان فيه خطة إسرائيل لتقسيم سورية ولبنان إلى دولة علوية تأخذ الساحل السوري وتضم حمص وحماة وطرابلس، ودولة مسيحية تأخذ ماتبقى من الساحل اللبناني، ودولة شيعية ودولة سنية في الداخل، ودولة درزية تمتد من جبل العرب حتى المناطق الدرزية في لبنان تكون بمثابة حاجز بشري وطبيعي بين اسرائيل وسورية، وكان فيه خطتهم لتقسيم العراق إلى دولة كردية وأخرى سنية وثالثة شيعية. ولكم أن تتخيلوا المنطقة لو نجحت إسرائيل في مخططها.
لقد حاولت اسرائيل تقسيم لبنان أولاً، وما كانت الحرب الأهلية اللبنانية في السبعينات والثمانينات إلا من أجل ذلك.. كانت أمريكا مؤيدة لإسرائيل في مسعاها، لكن فرنسا التي كان لبنان مستعمرة لها لم توافق على تقسيمه، وأوعزت إلى حافظ أسد أن يدخل لبنان ويحول دون تقسيمه. وهذا لاقى هوىً عند حافظ أسد ذي النزعة القومية الوحدوية، وكان دفاعه ضد تقسيم لبنان دفاعاً عن وحدة سوريا وتأجيلاً لأي مخطط لتقسيمها. ثم جاءت الفرصة المواتية لتنفيذ خطة تقسيم العراق والفوز بنفطه جائزة، فقامت أمريكا بغزوه تعاونها بريطانيا وانضمت إليهما فرنسا التي عاندت في البداية، وكان معها حافظ أسد معانداً، حتى إذا تيقنت فرنسا أنها ستخرج من المولد بلا حمّص ما لم تشارك أمريكا في احتلال العراق، أقالت فرنسا وزير دفاعها وانضمت إلى الحلفاء ومعها سورية التي ضمنت لهم وقوف إيران على الحياد.
لقد مهد الحظر الجوي الذي فرضته أمريكا على جنوب العراق وشماله منذ عام 1991 وحتى غزوهم العراق عام 2003 مهد لتقسيم العراق وكرس شعور العراقيين بالانقسام على أساس طائفي وقومي، لكنه أبداً لم يَحْمِ العراقيين من بطش صدام الذي ارتكب المذابح في البصرة عندما انتفضت، ولم يكن بحاجة إلى الطيران للقيام بذلك، وهو يواجه شعباً أعزل أو شبه أعزل. لقد كانت الحياة في العراق أيام صدام قاسية من حيث فقد العراقيين للحرية السياسية ووقوعهم ضحايا نزوات دكتاتور سفاح مثل صدام، لكن الأمور لم تتحسن كثيراً بعد احتلال أمريكا للعراق، فالذين قتلوا بعد الاحتلال أضعاف أضعاف من قتلهم صدام، وما تزال العراق تعيش حالة من الخوف والفقر وسوء الخدمات والفساد السياسي والإداري والفوضى على كافة الأصعدة، بما يجعل كثيرين يترحمون على أيام صدام ويرونها خيراً مما يعاني منه العراق الآن.
لقد كان الهدف المعلن للغزو الأمريكي للعراق هو تحرير الشعب العراقي من دكتاتور مستبد ونقل العراقيين إلى نعيم الحكم الديمقراطي، وكان الهدف الحقيقي هو السيطرة على نفط العراق والخليج وتقسيم العراق إلى ثلاث دويلات ضعيفة لا تشكل أي تهديد لإسرائيل، والواقع يرينا أن الأمريكان نجحوا في تحقيق أهدافهم غير المعلنة ولم يحقق الشعب العراقي الكثير من المكاسب، ولم تتحقق أحلامه في حياة حرة كريمة راغدة حتى الآن، رغم الأعداد التي لا تحصى من الضحايا، والدمار، والجراح الجسدية والنفسية التي أصابت العراقيين بسبب الغزو، وبسبب الحصار الاقتصادي الذي سبقه، وكان الادعاء أنهم فرضوه من أجل الشعب العراقي.
ما تزال إسرائيل ومن ورائها أمريكا تحلم بتقسيم سورية ولبنان. وبالنسبة لإسرائيل لا يبدو هنالك من هو خير من النظام السوري الحالي إلا أن تحتل أمريكا سورية وتقسمها وتضع فيها حكومات تابعة تنفذ سياساتهم وتحمي إسرائيل، لذا فإن إسرائيل لا تشجع على الإطاحة بالنظام الحالي إلا من خلال التدخل العسكري الأمريكي المباشر الذي يضمن أمنها ومصالحها وتحقيق حلمها في تقسيم المنطقة إلى دويلات طائفية ضعيفة متناحرة. وهذا يعني أن أغلب الساسة الأمريكيين سيكونون متحمسين لمثل هذا التدخل حتى لو كلف أمريكا المال الكثير رغم ما تمر به من صعوبات اقتصادية، هذا إن افترضنا أن أمريكا لن تجبر دول الخليج على دفع نفقات تدخلها في سورية بحجة أنه تدخل من أجل حماية الشعب السوري وتحريره.
وهذا يفسر ضعف الدعم الأمريكي للثورة السورية وفتوره الذي يهدف إلى إعطاء النظام فرصة لقتل المزيد من السوريين، لا حباً في النظام وحرصاً عليه، بل ابتزازاً للشعب السوري بتركه فريسة بيد النظام، مما جعل بعض المتظاهرين السوريين يرفعون لافتات تطالب بالحظر الجوي والتدخل العسكري. إنهم يريدوننا أن نتألم حتى نصرخ ونستغيث بهم ونرضى بشروطهم لنجدتنا ومساعدتنا. وأمريكا لا تتصرف بمفردها في منطقتنا إذ عندها دول تابعة لها لا تقدر على مخالفتها تحيط بسورية وتمارس نفس الضغط على الثورة السورية، وذلك بالامتناع عن المساعدة مع التلويح بها كي يدفعنا اليأس إلى الالتجاء إليهم والقبول بشروطهم.
16/10/2011
ويتبع >>>>>: ما لنا غيرك يا الله(2)
واقرأ أيضاً:
ما يحدث في سورية إلى أين؟3