الأمريكان لا يهمهم أن يقتل منا الآلاف أو عشرات الآلاف ظلماً، فمجزرة تدمر في صيف عام 1980 لم تكن غائبة عنهم، والسوريون يومها وصلتهم أخبار دخول عناصر من سرايا الدفاع إلى مهاجع السجناء الإسلاميين في سجن تدمر وإطلاقهم النار عليهم وقتلهم لأكثر من ألف سجين، دون معرفة أسمائهم، ودون ثبوت أية تهمة عليهم. وما كان ذلك إلا انتقاماً لقيام شاب إسلامي كان في الحرس الخاص بحافظ أسد بإلقاء قنبلة يدوية عليه لقتله، لكن لسوء حظ السوريين أو ربما لحسنه، نجا حافظ أسد، وأمر في اليوم التالي بالانتقام من أكثر من ألف إسلامي لا دخل لهم بمحاولة اغتياله.
المهم لم تكن مذبحة كهذه علم بها السوريون فور وقوعها، لتخفى على أمريكا وغيرها من الدول الغربية أو الدول المحيطة بسورية، ولم يكن صمت الجميع عليها نتيجة عدم علمهم بها، بل تجاهلوها لأن دماء السوريين لا قيمة لها عندهم، ولأن النظام وقتها كان يحارب الاتجاه الإسلامي، بعد نجاح الإسلاميين في إيران في ثورتهم عام 1979، وخشية أمريكا من نجاح الإسلاميين في دول المنطقة في ثورات مماثلة.
عندما تخدم الجريمة مصالحهم فإنهم يغضون الطرف عنها حتى لو كان ضحاياها عشرات الآلاف من الأبرياء، وهذا بالضبط ما حصل في حماة في شباط 1982، عندما أعلن مجموعة من الشباب الإسلامي فيها ربما لا يبلغون مئتي شاب، أعلنوا تمرداً مسلحاً، وكانوا مختبئين في الأحياء القديمة من مدينة حماة، حيث البيوت متلاصقة والحارات ضيقة ويسهل على الشباب الدخول إلى بيت ثم القفز على الأسطح للوصول إلى أماكن بعيدة يصعب القبض عليهم فيها، فكانت أوامر حافظ وبتنفيذ أخيه رفعت لها، بمحو الأحياء القديمة من حماة وتدميرها حتى على رؤوس أهلها، من أجل القضاء على ذلك التمرد الذي لم يكن مسلحاً بأكثر من البنادق والقنابل اليدوية، ومن أجل إزالة أي مخبأ يمكن للمتمردين أن يختبئوا فيه، فكانت مذبحة حماة التي يقال أن ضحاياها كانوا بالآلاف أو ربما عشرات الآلاف.
لم تقع مذبحة حماة في غفلة من أمريكا وحلفائها في المنطقة، ولم تكن أرواح السوريين الأبرياء لها أية قيمة لديهم طالما كان إزهاقها فيه مصلحة لأمريكا وإسرائيل والأنظمة الحليفة لهما في المنطقة. واليوم لا يتباكى الأمريكان على شباب الثورة السورية الذين يقتلهم الأمن والشبيحة لمجرد أنهم هتفوا مطالبين بالحرية وإسقاط النظام، لا يتباكون حزناً ورحمة على قتلانا إنما هي الفرصة واتتهم لتوظيف هذه الجرائم التي يرتكبها النظام واستغلالها والاستفادة منها لتحقيق أحلامهم الاستعمارية وأحلام إسرائيل.
ولا تظنوا أن روسيا والصين استخدمتا الفيتو في مجلس الأمن حباً في النظام وكرهاً بالثوار، إنما هي مصالحهم ودفاعهم عن أنفسهم حيث يشكل سقوط سورية في يد أمريكا تهديداً لهما، لذا أحبطتا مشروع القرار الأوربي الأمريكي في مجلس الأمن لأنه كان يمهد قانونياً وسياسياً لتدخل عسكري أمريكي في سورية، ولتحوُّل سورية إلى قاعدة أمريكية. في أيام الاتحاد السوفيتي كانت الإيديولوجية الاشتراكية تدفع روسيا والصين لمساعدة الدول التي تنادي بالاشتراكية ولو كلفهما ذلك الخسائر المالية، لكن الإيديولوجيا الاشتراكية لم تعد تحرك أحداً هذه الأيام.
أقول ذلك لأبين لشباب ثورتنا أن موقف روسيا والصين ليس موقفاً مؤيداً للنظام في سورية ضد شعبه من أجل عيون النظام، إنما هي مصلحتهم الاستراتيجية التي ترى النظام رغم جرائمه خيراً من احتلالٍ أمريكي لسورية، ومن تحولها إلى قاعدة للأمريكان. أي إنه لو ضمن الروس والصينيون أن الإطاحة بالنظام ستأتي بنظام آخر لا يسمح لأمريكا بالسيطرة على سورية أو احتلالها فإن موقفهم من ثورتنا سيتغير. تشرشل قال قديماً: (ليس لبريطانيا أصدقاء دائمون إنما لها مصلحة دائمة)، وهذا ينطبق على روسيا والصين وحتى على إيران، وعلى كل دول الأرض، إلا التي تحكمها أنظمة عميلة تقدم مصلحتها كأنظمة على مصلحة أممها، كما كان حال نظام مبارك على سبيل المثال. أنا لست منزعجاً من الفيتو الروسي والصيني رغم أنه يصب في مصلحة النظام، فرب ضارة نافعة كما تقول العرب، ولعل في هذا الفيتو إبعاداً لشبح الاحتلال الأمريكي عن بلادنا ريثما نتروى ونفكر بما علينا فعله للخروج منتصرين وبأقل الخسائر.
ويبقى السؤال هل من مخرج للثورة السورية من حالة المراوحة في مكانها التي تبدو عليها الآن دون تدخل عسكري أمريكي؟ وهل نحن مضطرون للاستعانة بالتدخل الأجنبي ثم تحميل النظام المسؤولية عن اضطرارنا هذا ووضع اللوم عليه؟ وهل ستختلف العواقب إن كنا نحن المسؤولين عن التدخل أو كان النظام هو من اضطرنا إليه؟
دعونا نتخيل الاحتمالات الممكنة ونتخيل عواقبها كي نختار أقلها ضرراً وأكثرها ربحاً لنا.
الاحتمال الأول هو أن تفرض أمريكا حظراً جوياً مشكوكاً بفائدته، وأن تفرض تركيا منطقة عازلة تكون ملاذاً للعسكريين المنشقين والمتطوعين لقتال النظام. ثم تقوم أمريكا وحلفاؤها العرب بتسليح هؤلاء وعندما يبلغون من القوة حداً معقولاً يشنون حرباً برية تغطيها حرب جوية أمريكية وأطلسية، تماماً كما حدث في ليبيا، والأمل أنه على المدى البعيد ستتم الإطاحة بالنظام.
لكن السؤال ما الثمن الذي ستدفعه سورية من أرواح أبنائها ومن دمار مقدراتها حتى نحقق ذلك الانتصار؟ وهل يومها ستكون الدولة السورية الجديدة دولة مستقلة استقلالاً حقيقياً بحيث تحمي مصالح السوريين ولا يكون دورها غير تنفيذ السياسة الأمريكية في المنطقة. لا تنخدعوا بالوضع الليبي فإن المهم في ليبيا هو نفطها وأسواقها الواعدة ومشاريع بناء البنية التحتية التي تنتظر الشركات الأمريكية والأوربية استلامها للاستفادة من الثروة الليبية في إقالة عثار اقتصادهم المأزوم. ما زلت أذكر اضطرار بلد عربي في التسعينات لإعطاء مشروع اتصالات كبير لشركة أمريكية تطلب أربعة مليارات دولار بينما شركة يابانية كانت مستعدة لتنفيذه بمليار وستمئة مليون دولار فقط. يومها تدخل بيل كلنتون شخصياً لإقناع هذه الدولة بإعطاء المشروع للأمريكان رغم الخسارة الرهيبة لهذه الدولة، وهي دولة مستقلة. ماذا سيكون الحال بعد أن يسقط النظام لنسقط نحن في قبضة الأمريكان؟ والله لن يرحمونا ولن يأتوا إلا من أجل مصالحهم وأطماعهم.
الاحتمال الثاني هو تحول الثورة إلى ثورة مسلحة تحركها الروح الدينية الاستشهادية، وبالتالي تتحول تلقائياً إلى ثورة طائفية سنية ضد علوية، وعندها ندخل في حرب أهلية ستكون مدمرة أكثر من الحرب الأهلية اللبنانية التي دامت خمسة عشر سنة وخرج الجميع منها خاسرين، وعندها سيتمكن النظام من تجييش جميع العلويين ومعهم الدروز والمسيحيين، لأنهم بالتأكيد لا يريدون أن يحكم سورية حكومة دينية على النمط الإيراني لا تعاملهم كمواطنين لهم جميع حقوق المواطنة بغض النظر عن أديانهم ومذاهبهم. وعندها ستطول الحرب وتكثر الضحايا وسينتصر النظام في النهاية، وسيكون ذلك على حساب وحدة الشعب السوري الذي سيكون لديه الأحقاد والرغبة في الثأر من بعضه بعضاً، وسيطول بقاء النظام إلى أمد لا يعلمه إلا الله.
الاحتمال الثالث أن تستمر الثورة بنفس الزخم أو أكثر منه، ويستمر النظام في ارتكاب جرائمه، مما يدفع الكثيرين من العسكريين للانشقاق بحيث يصبح الجيش السوري مهدداً بالتفكك الكامل، ويرافق ذلك صعوبات اقتصادية حتمية تؤثر على التجار والضباط الكبار الذين يدعمون النظام، بحيث يصبح النظام عبئاً عليهم، لا مصدر منفعة لهم كما كان من قبل، وهم حتى لو صبروا فإن لصبرهم حدود، وسيكون لا بد من انقلاب عسكري مدعوم من فرنسا بالذات ومن وراءها من الدول الغربية للإطاحة بالنظام ومجيء نظام جديد مع بقاء هؤلاء الضباط في مناصبهم. ولكن لماذا فرنسا بالذات؟
لأن فرنسا غير مستعدة لاحتلال سوريا عسكرياً، ولا تحب أن تسيطر أمريكا على سورية وتفقد فرنسا نفوذها ومصالحها فيها، لذا فرنسا التي تؤيد في العلن الموقف الأمريكي الداعي إلى التدخل العسكري في سورية، لا تتمناه في سرها، وتتمنى لو تنفرد هي بحل المشكلة السورية، لتبقى صاحبة النفوذ الأكبر في بلد استراتيجي مثل سورية. طبعاً لو تغلبت أمريكا ففرنسا ستكون شريكة لها، لأن ذلك خير لها من خروجها بلا مكاسب على الإطلاق.
هم واقعيون ويتمنون أن تبقى سورية لهم، لكن لن يترددوا في الانضمام إلى أمريكا في أي تدخل عسكري في سورية حتى يضمنوا حداً أدنى من مصالحهم في سورية ولبنان وباقي المنطقة. لكن لو أصر الثوار السوريون على سلمية الثورة، وعلى الرفض التام لأي تدخل عسكري أجنبي، وبقي انشقاق العسكريين سلمياً، أي لم يتحولوا إلى مقاومة عسكرية للنظام تُدْخل البلد في ما يشبه الحرب الأهلية، فعندها سيزداد فتور أمريكا في دعم الثورة من أجل تركيعها، لكن فرنسا ستبقى مؤيدة لأي انقلاب عسكري يقوم به ضباط متعاونون معها ويضمنون لها بقاءها الدولة صاحبة النفوذ وذات الأفضلية عند السوريين.
لو صبرنا على تقديم الشهداء ولم نتورط في أي عنف، فإن المزيد من الشباب سينشقون عن الجيش ، ولا بأس أن ينشقوا بأسلحتهم الفردية، ولا بأس أن يقاوموا محاولات اعتقالهم وتصفيتهم ولو أدى ذلك لاستشهادهم دفاعاً عن أنفسهم، بشرط أن لا يقوموا بأية مهاجمة لا للأمن ولا للشبيحة، فالذي يموت دون نفسه فهو شهيد طالما أن النظام سيكون مصراً على قتل أي عسكري ينشق لإرهاب باقي العسكريين ممن تراودهم أنفسهم بالانشقاق، وهذا قتل ظالم لا يستحقونه ولا يمكن أن ندعوهم للاستسلام للنظام ليقتلهم بدم بارد ثم يسير في جنائزهم على أنهم شهداء قتلتهم العصابات المسلحة المزعومة. لكن قيامهم بالمبادرة والمهاجمة سيفقد الثورة طابعها السلمي، وسيكونون جناحاً عسكرياً للثورة، مما سيطيل عمر النظام ويزيد فرصه في الانتصار والقضاء على الثورة.
على المنشقين الإعلان عن أن انشقاقهم كان لأنهم يرفضون قتل إخوانهم السوريين دون حق، لكنهم لن يمارسوا أي حرب مسلحة ضد أي فئة في بلادهم، حتى لو كانت الشبيحة سيئة الصيت. يجب أن لا يهاجم السوري سورياً آخر، أما أن يفر المنشقون بأسلحتهم ويعتزلوا النظام ويكفونه خيرهم وشرهم، ثم إن أصر على مهاجمتهم في مخابئهم لقتلهم، دافعوا عن أنفسهم وماتوا دفاعاً عن النفس، فلا بأس في ذلك، طالما أنهم لم يعتدوا على أحد، ولم يبادروا في الهجوم على أحد.
قد يبدو هذا الكلام مثالياً أو متخاذلاً لبعض المتحمسين الذين تدفعهم رغبتهم في الانتقام من النظام إلى الدعوة إلى التمرد المسلح على النظام. لكن صدقوني إن الضحايا إن بقيت ثورتنا سلمية ستكون أقل كثيراً مما لو تحولت إلى مسلحة، وسيكون انتصارها مؤكداً حتى لو كان على يد ضباط علويين وغير علويين هم الآن جزء من النظام.
قد يقول البعض إن من الضباط الذين يمكن أن يساهموا في الانقلاب المتوقع ضباط تلوثت أيديهم بدماء السوريين المسالمين خلال مرحلة القمع للثورة التي نمر بها حالياً، فكيف سنرضى أن يبقوا في مناصبهم بعد سقوط النظام وأن لا يحاكموا على جرائمهم؟ وأن لا يلاحقوا على كسبهم غير المشروع قبل أن ينقلبوا على النظام؟
نعم سنرضى، لأن المصلحة تقتضي ذلك. لكن حق أهل الشهداء في التعويض من مال الدولة تعويضاً مجزياً لا يسقط، بل تدفع دية كل شهيد ويعوض كل مصاب التعويض المالي الكبير الذي يضمن للمصاب ولأولاده ولأولاد الشهيد وأهله حياة كريمة، إذ دية المقتول كانت زمن الرسول صلى الله عليه وسلم مئة ناقة، أي ثروة كبيرة جداً في حسابات ذلك الزمان، ولا بد أن تكون دية كل شهيد من شهداء الثورة ما يعتبر ثروة كبيرة في زماننا.
أما الذين استشهدوا فلن يعوضهم شيء إلا ثواب الله فهم أحياء عند ربهم يرزقون ، ولن ينفعهم القصاص، إنما هو من أجل ذويهم ومنعاً لعمليات الثأر التي يقتل فيها البريء بجريرة قريبه، وسيسعدهم كثيراً أن لا تذهب دماؤهم هدراً بل تكون الثمن لتحرر الأمة والنهوض بأحوالها.
نعم المصلحة تقتضي أن لا يلاحق من ينقلب على النظام ويساهم في إسقاطه، لأن الإصرار على ملاحقته يجعله يستميت في الدفاع عن النظام، إذ يبقى لديه أمل أن ينتصر النظام ويكون بذلك نجاة له من الانتقام والملاحقة. لا تستغربوا هذا المنطق الذي يغلب المصلحة على العاطفة، فهو منطق قرآني نجده في مسألتين. الأولى حالة بغي فئة على فئة في مجتمع المسلمين بدافع سياسي، فقد أذن الله بقتال الفئة الباغية أي المتعدية حتى تفيء إلى أمر الله، أي حتى ترجع إلى الحق والعدل، فإن رجعت أو تم التغلب عليها، فإنها لا تعامل معاملة العدو المهزوم، فلا يقتل منهم الأسير، ولا يُجْهَز على الجريح، ولا يلاحق الهارب، ولا تصادر أموالهم ولا تُسبى نساؤهم، إنما هم بعد هزيمتهم مواطنون كغيرهم، لهم الأمان على أموالهم وأعراضهم وأنفسهم، ولا يلاحقون فيما سببوه من قتل أو جرح أو إتلاف مال.
اقرؤوا ما جاء في سورة الحجرات حيث يقول تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)}، واسألوا العلماء إن شئتم عن هذه الأحكام التي لا يعلمها كثير منا هذه الأيام.
16/10/2011
ويتبع >>>>>: ما لنا غيرك يا الله(3)
واقرأ أيضاً:
ما يحدث في سورية إلى أين؟3