الطائفية والثورة في سورية3
اليوم أكملت الثورة السورية عاماً كاملاً ودخلت في عامها الثاني منذ انطلاقتها المترددة، بينما هي اليوم ثابتة لا تتردد ومصرة على تحقيق أهدافها مهما عظمت التضحيات وكثر الشهداء. الثورة السورية قامت بشكل ارتجالي وكرد فعل على الإهانة ومحاولة الإذلال التي وصلت إلى حد إجبار الناس على تأليه الرجل الذي يطالبون برحيله بل محاكمته وإعدامه، وإرغام الناس على السجود لصورته كما يسجد المصلي لخالقه.
الثورة السورية ثورة كرامة لا ثورة جوع وخبز، فالسوريون رغم صعوبات الحياة كانوا في حال أحسن من حال شعوب عربية أخرى ثارت على حكامها وأحرق بعضهم نفسه من أجل لقمة العيش. كانت الأمور الاقتصادية سيئة لكنها في تقديري وأنا أتكلم عن معايشة مباشرة، لم تكن من السوء بالقدر الذي يجعل الناس يتظاهرون ويتلقون الرصاص في صدورهم، فالإنسان بفطرته يحب الحياة ويتمسك بها إلى أبعد الحدود ولا تهون عليه من أجل تحسين رفاهيته المعيشية، لكن لدى الإنسان أشياء أغلى عليه من حياته وفي أمتنا العرض والكرامة ترخص الحياة فداء لهما.
عندما بدأت التظاهرات كانت محدودة وكان النظام يتمتع بشعبية كبيرة لدى الكثير من السوريين ولدى العرب خارج سورية، فقد كان نظاماً ممانعاً وغير مطيع لإسرائيل وأمريكا، في حين كان النظام المصري يعمل لصالح إسرائيل على المكشوف ودون حياء أو مبالاة بمشاعر المصريين. صحيح أن ممانعة النظام السوري لم تحرر الجولان لكن المثل الشعبي يقول: الرمد ولا العمى، أي الرمد أهون من العمى. كانت ممانعة النظام الكلامية في أكثر الأحيان تبدو في عيون السوريين وباقي العرب الذين رأوا أنظمتهم تبالغ في التذلل لإسرائيل وأمريكا وتتنازل عن مصالحهم المعيشة إرضاء لإسرائيل، كانت هذه الممانعة محل تقديرهم واستحسانهم رغم عيوبها التي لم تكن قليلة.
يقولون الأعور بين العميان ملك، والنظام السوري في ممانعته نصف الجادة وحديثه عن السلام العادل والحقوق العربية التي لا يحق لحاكم أن يتنازل عنها، كان بالمقارنة مع أنظمة عربية أخرى بطلاً ومناضلاً. صحيح أنه لم يحقق شيئاً يذكر على أرض الواقع، لكن مجرد ممانعته وعدم مطاوعته لإسرائيل وأمريكا كان شيئاً محبباً إلى نفوس العرب الذين شعروا بالذل والمهانة التي عرضتهم لها أنظمة خائنة خيانة لا تخفى على أحد.
إذاً بدأ بعض السوريين احتجاجات محدودة لم أكن أتصور أنها يمكن أن تتطور إلى ثورة قوية وعنيدة تستعصي على كل محاولات النظام لقمعها واستئصالها، وكنت في نفسي حزيناً لأنني توقعت أن يقوم النظام الذي له تلك الشعبية وعلى رأسه رجل محبب للنفوس ببعض الخطوات التي سترضي الناس قليلاً وتؤجل بلوغهم حد الثورة ربما لسنين عديدة، وهذا كان يعني أن يطول عمر النظام الذي كنت أدرك إلى أي مدى هو نظام سيء ولا أمل فيه في أن يحقق لنا شيئاً لا على مستوى معيشة السوريين ولا على مستوى تحرير الأرض المغتصبة.
كنت أغبط المصريين والتونسيين رغم أنني أعلم جيداً أن التغيير في تونس ومصر لن يكون جذرياً، وأشعر بالأسى على السوريين الذين بدا لي أن عليهم تحمل نظامهم الفاسد المتخلف الذي يخدعهم بالكلام المعسول ويدغدغ مشاعرهم الوطنية والقومية دون أن يحقق شيئاً ملموساً لهم، بينما هو يستأثر بخيراتهم ويحتكر الحياة السياسة ويعاملهم معاملته لقطيع عليه السمع والطاعة ولا يحق له إبداء رأي أو اعتراض، في الوقت الذي تحرر فيه الناس حتى في الدول التي كانت شيوعية. لكن حدث شيء لم أتوقعه أسعدني رغم مأساويته.
لقد حاول النظام القضاء على الاحتجاجات بقسوة بالغة كانت كفيلة قبل ثلاثين سنة أن تخمدها إلى غير رجعة. بالغ النظام في القتل والاعتقال والتعذيب حتى الموت، وحتى يجعل الأسر في درعا تلم أولادها وتمنعهم من القيام بأية حماقات أعاد طفلاً ينطق وجهه بالبراءة إلى أهله جثة تحمل آثار وحشية لا مبرر لها على الإطلاق، الكدمات على جسده الطري ورقبته مكسورة وذكره مقطوع وطلقة في صدره وطلقة ثانية في ذراعه اليمنى اخترقتها ودخلت في بطنه وطلقة ثالثة اتخذت المسار نفسه في الجهة اليسرى.
تفنن وإبداع في الوحشية والقسوة على طفل قيل أنه كان يحاول إيصال بعض الطعام لأقربائه المحاصرين في درعا. كان بإمكان النظام التخلص من جثة حمزة الخطيب ودفن جريمته معها، لكن الجريمة كانت مقصودة لبث الرعب في نفوس الآباء والأمهات ليتولوا بأنفسهم تقييد أولادهم وليمنعوهم من التورط في أي نشاط فيه خروج على الخضوع الذليل الذي كان يعيشه السوريون، ومعروف أن المراهقين هم أسرع الناس لتقبل الجديد وللاندفاع وراء أي دعوة تدعو إلى المثاليات وللتضحية بأنفسهم في سبيل ذلك، فهم ليس لديهم أولاد يخشون عليهم أن يعانوا اليتم والفقر من بعدهم.
كان ما فعلوه بحمزة الخطيب مقصوداً ومتعمداً وله هدفه. كانوا يستبيحون كل محرم لتحقيق غاياتهم. لكن كما أشعلت النيران التي احترق بها البوعزيزي في تونس ثورة كاملة فإن صورة حمزة الخطيب أيقظت الكثيرين من السوريين من غفلتهم وفتحت أعينهم ليروا عيوب النظام الذي كانوا مخدوعين به، وأعلنها السوريون ثورة الكرامة والحرية.
كان من السهل القضاء على الثورة في سورية وهي برعم صغير ليتأخر تحرر السوريين من طغاتهم ربما جيلاً آخر وذلك بالتعامل معها برفق وسياسة وكياسة، لكن النظام قدم لنا خدمة عظيمة لم يقصدها، لقد خلق بحمقه واستكباره ثورة في سورية ما كان لها أن توجد لولا أفعاله المخزية التي أسقطت عنه ورقة التوت التي كان يستر سوءته بها، فإذا به كله سوءات لكن الغشاوة كانت تغطي أبصار الكثيرين، وبفضل النظام السوري بدأت الغشاوة تنجلي. الثورة في سورية من صنع النظام السوري، وهي بالدرجة الأولى رد فعل على ازدرائه للسوريين ومعاملته لهم معاملة السادة الظالمين للعبيد المقهورين.
النظام يقوم على مجموعة من أناس لا أخلاق لهم، بعكس بشار الذي هو استثناء بينهم، لذا استخدموه قناعاً يخفي حقارتهم. كانوا مختبئين خلفه يعيثون فساداً، والسوريون يظنون بشار واحداً من جماعة كبيرة من أمثاله، ولم يكونوا يدركون أنه كان الوحيد الذي يتمتع بالطيبة والصدق في مواقفه وبخاصة تجاه إسرائيل، لكنه كان عاجزاً وهو الحمل الوديع بين قطيع من الذئاب الذين لا يحللون ولا يحرمون والمستعدون لأن يقترفوا أية جريمة للمحافظة على تسلطهم على البلاد والعباد.
قسوة القمع ووحشيته، رغم سلمية الاحتجاجات وعفويتها، كشفت للكثيرين مقدار الحقارة والنذالة التي يتمتع بها حكامهم، إذ ليس بشار الحاكم الحقيقي في سورية. وإن كان يبدو لي أنه رضي أن ينضم إلى عصابة من الحثالة تسيطر على البلاد ربما ليأمن على نفسه وعائلته الصغيرة، وربما استمراءً للذة السلطة المطلقة التي أوهموه أنه يتمتع بها، مع المال الكثير الذي قيل إن بشاراً يحب جمعه بعكس أبيه الذي لم يعرف عنه أنه ترك ثروة فاحشة تؤمن مستقبل أولاده، اللهم إلا سورية كلها، التي كانت بمثابة مزرعة كبيرة له، هي ومن عليها من المواطنين المخدوعين المستعبدين.
وحشية النظام وغباؤه في التعامل مع احتجاجات بعض من تجرأ من السوريين على المطالبة لا بإسقاط النظام أو تنحي الرئيس بل المطالبة بالحرية والإصلاح ولو في ظل النظام نفسه، هذه الوحشية والاعتداء على كرامة الناس استفزتهم فثاروا لكرامتهم، وثاروا غضباً لمقتل أقربائهم وأصدقائهم وأبناء عشائرهم الذين لم يكن ذنبهم إلا أنهم هتفوا للحرية وأيديهم خالية من أي سلاح وصدورهم عارية لرصاص الوحوش الذين يحكمونهم. وانتقل الثائرون من المطالبة بالحرية والإصلاح إلى المطالبة لا بتنحي الرئيس كما طالب المصريون من قبلهم بل المطالبة بإعدام الرئيس الذي كانوا يحبونه وانكشف أمامهم عن مجرم يستخدم براعته في الكلام لتبرير جرائم رجالات نظامه المخزية لمن لديه ذرة من حياء أو أخلاق أو مبادئ.
ومن فضل الله على السوريين أن النظام مجموعة من الأغبياء المغرورين الذين لا يتعلمون من أخطائهم أبداً، والذين أعماهم غرورهم واستكبارهم فصاروا عاجزين عن أن يبصروا المستنقع الذي وقعوا فيه والهوة التي يسقطون فيها يوماً بعد يوم، فلا يخطر ببالهم استدراك الموقف ليخرجوا منه بأقل الخسائر لهم ولعائلاتهم. لقد أضل الله أعمالهم وصاروا مثل أحمق يريد أن يطفىء ناراً بصب الزيت عليها، وكلما زادها الزيت اشتعالاً زاد هو من الزيت الذي يصبه عليها ليطفئها، وهكذا الثورة السورية تقوى وتتعاظم كلما أمعن النظام بالقتل والتعذيب والاعتداء على الأعراض، الذي بلغ حد ارتكاب المذابح بحق النساء والأطفال. الأغبياء يتصورون الشعب الثائر مثلهم لو تهددت سلامة أحدهم وسلامة أولاده لاستكان وخضع وانقاد.
كان السوريون هكذا قبل ثلاثين أو أربعين عاماً، وكان قطع رأس القط من ليلة العرس كما يقال يبث الرعب في نفوس البقية ويضمن خضوعهم وانقيادهم، كان السوريون يعانون من الوَهَن الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم، أي حب الحياة حتى لو مع الذل وكراهية الموت حتى لو من أجل الكرامة. لقد نشأ جيل من السوريين لا يهاب الموت ولا يرضى أن يبقى مستعبداً فزادت المظاهرات وتوسعت وخرجت في مناطق لم تخرج فيها من قبل كلما بلغ الناس أخبار القتل والتعذيب والاعتداء على الأعراض. إنهم بدل أن يخافوا ويلوذوا ببيوتهم حرصاً على سلامتهم خرجوا يتحدون القتلة ويرحبون بالاستشهاد في سبيل العيش بكرامة صاروا يستحقونها.
وهكذا تطورت الثورة من اجتماع روح العزة التي لا يريد النظام أن يدرك أن السوريين صاروا يتحلون بها على أوسع نطاق، مع أسلوب أكثر من غبي حاول النظام به أن يقضي على الثورة التي قامت ثأراً لكرامة أهينت ولنفوس بريئة قتلت.. حاول أن يقضي عليها بمزيد من الإهانة والإذلال والقتل والتعذيب وهتك الأعراض، أي بالمزيد من الأفعال التي أشعلت الثورة حين صادفت نفوساً كريمة تأبى الذل والهوان، ورافق ذلك كله انكشاف النظام للكثيرين من الذين كانوا مخدوعين به. وهكذا كان للنظام فضل التعجيل بثورة السوريين من أجل حريتهم وكرامتهم ومن أجل دولة العدالة والمواطنة التي يتساوى فيها أبناؤها على اختلاف أديانهم وأعراقهم وأجناسهم ولغاتهم وتتكافئ فيها فرص الجميع فيكون الأصلح هو الذي يسود في المجتمع، ونتخلص من الحال البائسة التي نحن عليها اليوم، حيث يسود العشيرة أرذلهم، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم.
ويتبع >>>>>: الثورة السورية بين العنف واللاعنف2
واقرأ أيضاً:
ما يحدث في سورية إلى أين؟3 / ما لنا غيرك يا الله(3)