أكتب هذه السطور وأنا في مدرج طلابي بالجامعة التي أدرس فيها حيث كان مفترضا أن أحاضر في مادة "علم النفس" لطلاب السنوات الأولى بكلية الطب عن الشخصية، وأنواعها، وسماتها، ونظرياتها، واضطراباتها!!
مضى نصف وقت المحاضرة، ولم يحضر أحد، وقد تكرر هذا مع زملائي، وأحسب أن وراءه الزهد في المادة حيث ينصب اهتمام أكبر من الطلاب على المواد الأخرى حيث الدرجات المرصودة لها أكبر، وحيث يبدو لهم أن الطبيب يتكون بدراسة تشريح الجسد، لا بمعرفة تشريح النفس، والمجتمع!!
نحن إذاً أمام تقسيم مصري خالص يضع كليات جامعية في المقدمة ويسميها كليات القمة، وأخرى في المؤخرة والقاع، ومنها كليات العلوم الإنسانية جميعا، ثم في كليات القمة هذه يعود فيقسم العلوم فيهمل علم النفس، ولا يعبأ كثيرا بطب النفس، وذلك بالمخالفة للتقاليد العلمية المستقرة حاليا في البلدان الأكثر تقدما في التعليم الطبي، وممارسة الطبيب لمهنته بين الناس، وفي علاقة مباشرة معهم!!
غياب المعرفة المعقولة بالعلوم الإنسانية خلق عقولا جامدة جاهلة بتاريخ ونظم وجدليات وخبرات تسيير وتطوير الحياة الإنسانية، والعلاقات الاجتماعية، والحراك والتطور السياسي والاقتصادي، والإنتاج الزراعي والصناعي، وبقية المجالات التي تدرسها العلوم المهمشة.
الجهل فادح بكيفية عمل الدماغ البشري، وكيفية بناء الجماعات الاجتماعية، وديناميات حركتها، وآليات إخضاعها، والسيطرة عليها، ومسخ وعيها.
بالتالي تستقل بتقرير مصائر شعوبنا نخب محدودة عددا، وأفقا، وخيالا، لا تجد من يراجعها، ولا من يحاسبها أو يراقبها، فتأمر وتنهى، وتثبت وتنفي، وتقرر بلا معقب، ولا حسيب!! وبالجملة فإن رافد التعليم في بناء الوعي صار وبالا على صاحبه، وبدلا من أن يمنحه الفرص لمراجعة وتغيير أوضاعه، صار طبيعيا أن يغرق الناس في البؤس بلا نهاية، ولا حدود.
الثقافة رافد آخر من روافد الوعي، كان من الممكن أن يعوض تغييب التعليم، فما هو رصيد الإنسان العربي من الثقافة؟؟
على أسوار نفس الجامعة يبسط بائع بسيط بضاعته من الكتب المستعملة، ويبيع الكتب بأسعار تبدأ من نصف جنيه، وقد اشتريت منه مجموعات من كتب نادرة نفذت من الأسواق، ولا أمر عليه حتى أحمل ما يثقل كاهلي، ويزيد عن قدرتي العضلية، ولكن أرى كتبا مغرية جدا بأسعار خيالية منخفضة، ولفت انتباهي أن الأغلبية الساحقة من الطلاب يمرون أمام هذا البائع، ومجموعته المبهرة، دون أن يميزوا العناوين فضلا عن أن يشتروا بتلك الأسعار الزهيدة جدا!!
نفس المشهد يتكرر كل عام في جناح الكتب المخفضة بمعرض القاهرة الدولي للكتاب حيث يصل سعر الكتاب إلى ربع جنيه مصري، وغالبا ما تجد الناس – في المعرض بشكل عام- مقبلة على عناوين عن السحر، أو الجن، أو تفسير الأحلام، دون كتب أخرى في الفلسفة، أو علوم الإنسان، أو الزراعة، أو حتى التأمل الروحاني.
فإذا قيل أننا نعيش عصر الصورة فيمكن بسهولة مقارنة معدلات تنزيل الأفلام التعليمية أو الوثائقية أو حتى المسلسلات التي تحمل فكرة جديدة، أو خيالا متحديا، مقارنة بمعدلات تنزيل الأغاني، أو مواد ترفيهية خفيفة، أو مقاطع جنسية. يعلم الجميع أنها مجرد تمثيل وادعاء بالمتعة والإغواء دون أن تكون حتى مصدرا لمعرفة سليمة عن الجنس أو الجسد أو العلاقات الحميمة!!
التعليم والثقافة مصدران للوعي العقلي، فماذا عن أنواع ومستويات الوعي الأخرى؟؟
هل الوعي عبر الإعلام، أو الوعي الروحي، أو الوعي عبر الحركة الجسدية، أو الوعي عبر إدراك المشاعر وتشغيلها يبدو أفضل حالا من الوعي العقلي لدى الأغلبية الساحقة؟؟
سأحاول أن أتطرق لهذا في المقال القادم بإذن الله، وحتى تكتمل القصة فإن وقت المحاضرة قد مضى دون أن يظهر أي طالب، أو طالبة حتى فكرت في أن نتواصل مع مراكز التنمية البشرية، والمهتمين بها لنتيح أمامهم حضور هذه المحاضرات فتكون بمثابة خدمة لنشر الوعي بالعلم النفساني وسط جمهور جاهل به، وجهله يؤذيه، ولا يتحرك لتغيير هذه الوضعية، حتى إذا جاءته الفرصة قريبة ومجانية!!
واقرأ أيضًا:
التغيير والوعي2/ الجماهير والتغيير 3