القشرة المخية الحديثة هي الجزء الأخير والأعلى من أدمغة الثدييات في سلم التطور. وهي تغطي نصف الكرة المخية الخارجية وتتألف من ست طبقات منفصلة كل منها تمكن لمهارات محددة. وتتألف القشرة الحديثة من ست طبقات، وتعتبر ميزة فريدة من نوعها للثدييات لأنها فقد تكونت وتطورت فقط في أدمغة الثدييات ولكن ليس أدمغة الحيوانات الأخرى. والقشرة المخية الحديثة مسؤولة عن مهارات معينة مثل الإدراك الحسي، والمنطق المكاني، الأوامر الحركية، اللغة الواعية، وعمليات التفكير والتخطيط. فباحات (أو مناطق) الفص الجبهي والقذالي والصدغي والجداري التي تمثل أجزاء القشرة المخية الحديثة تمكن المخ من هذا. فمثلا تتم معالجة المهارات العاطفية والاجتماعية في القشرة الجبهية الحجاجية في الفص الجبهي الذي أيضًا يحوي المهارات ذات الصلة بمعالجة اللغة في إطرها الاجتماعية المناسبة، بينما تتم معالجة المعلومات البصرية في القشرة البصرية الأولية ضمن الفص القذالي. بينما المعالجة المعلومات السمعية في القشرة السمعية الأولية داخل الفص الصدغي
وهناك نوعان رئيسيان من الخلايا العصبية في القشرة المخية الحديثة هما العصبونات الهرمية المثير والعصبونات البينية Interneurones المثبطة، وتتميز العصبونات الهرمية بشكل الخلية الثلاثي، ووجود محوار عصبي واحد لكل عصبون، وهي مسئولة عن تنظيم الوظائف الحركية، والعمليات المعرفية، وقدرة المعالجة البصرية. ووأما وظائف العصبونات البينية المثبطة في الدماغ فلا تعد ولا تحصى في القشرة المخية الحديثة، وليست وظيفة الإدراك على تعقيدها إلا واحدة منها.
تنظيم القشرة المخية
يمكننا أن ندرسَ تنظيمَ الطبقةِ الخارجية من نصف المخ الكروي أو القشرة المخية ( القشرة الحديثة Neocortex ) بطرق مختلفة، ومن أوائلِ هذه الطرق كانت طريقةُ خرائطِ التَّهَنْدُسِ الخلوي Cytoarchitectural Maps التي ما تزالُ مستخدمة إلى اليوم (مثلا خريطة برودمان Brodmann's Map للمخ البشري منذ عام 1909)، وتتَساوَى هذه الطريقةُ إلى حدّ ما مع التنظيمِ الوظيفي للقشرة المخية والذي يُقَسِّمُها إلى باحات Areas أو مناطق حسية وحركية وأخرى تَرَابُطِية Association، ويدَلَّلُ على ذلك من خلال التنظيمِ الصفائحي للقشرة، ففي الباحاتِ الحسية أساسا نجدُ الطبقةَ الرابعةَ (IV) أكثرَ بروزا من غيرها من الطبقاتِ لأنها مكانُ انتهاءِ الألياف المِهادية الواردة، بينما نجدُ الطبقةَ الخامسة (V) أكثرَ بروزا في الباحات القشرية الحركية.
وهناك أسلوبٌ مختلفٌ لدراسة تنظيمِ القشرة يُنْظَرُ فيه إلى تنظيمها باعتبارِه تنظيما عموديا، وهو ما يُعْرَفُ بالفرضِيَّةِ العمودية Columnar Hypothesis والتي تفْتَرضُ أن عمودَ الخلايا القشرية هو الوحدةُ الأساسية للعملياتِ القشرية، وأن النماءَ التطوري للقشرة عبرَ السلالات قد شَمِلَ زيادة في عددِ تلك الأعمدة، وهذا هو ما يُفَسِّرُ لماذا تمَّ تَضَخُّمُ القشرة الحديثة في المُقَدَّمات Primates (أعلى رُتَبِ الثدييات) بتَمَدُّد كبير في مِنْطَقَتِها السطحيةِ دونَ تغيُّرات بارزة في عددِ العصبونات كما يظهرُ في الاختراقِ العموديِّ لسُمْكِ القشرة.
التنظيم التشريحي للقشرة المخية:
تقليديا وُصفتْ القشرة المخية بأنها مكوَّنةٌ تشريحِيّا من سِتةِ طبقات، وإن قسِّمت إلى عدد أكثرَ في بعض الباحاتِ القشرية مثلا الباحةُ البصرية الأولية، وتَنْزِلُ الأليافُ المهادية الواردةُ التي تحملُ المعلوماتِ الحسية في الطبقةِ الرابعة (IV) وتُعْطي غالبا مدخولا أصغرَ للطبقة الخامسة (V)، ثم تنتهي في بُقَع مُنْفَصِلَة بحيث تضمنُ انتهاءَ المعلوماتِ الحسيةِ من منطقة معينة أو نوع معين من المستقبلاتِ في منطقة معينة من القشرة، ويَتَشَابَكُ المدخول الحسي بعد ذلك مع عصبونات بَيْنِيَّة (بين عصبونية) Intreneurones داخلَ القشرة، ومن الأخيرة تَنْبُتُ أليافٌ تُسْقَطُ عموديا إلى عصبونات في الطبقات القشرية الثالثة (III) والرابعة (IV) والخامسة (V) وهذه بدورِها تُسْقِطُ أليافا إلى مواضعَ قشرية وتحت قشرية أيضا، وبالتالي فإن الوزنَ النسبيَّ للعلاقاتِ المشبكيةِ داخل القشرة المخية يميلُ إلى الاتجاهِ العمودي، رغم وجودِ وصلات
التنظيم النمائي للقشرة المخية:
في الجهاز العصبي المركزيّ للثديياتِ تَتَطَوَّرُ جَمْهَرَةُ العصبوناتِ القِشْرِيَّةِ عبرَ عميلةِ ارْتِحَال من مناطقِ التكاثرِ حول فجواتِ البُطَيْناتِ المُخِّية، وتُوَجِّهُ الأليافُ الدّبْقِيَّةُ المُتَشَعِّعَةُ Radial Glial Fibres (بل ربما تُنْشِأ) تلك العصبوناتِ المُرْتَحِلَةِ عبر الجدارِ المخي الجَنيني Fetal Cerebral Wall لتَسْكينِ العُصبوناتِ كل في مَوْضِعِهِ القشريّ الصحيحِ في الصَفِيحَةِ القشرية النامِية، أي أنّ تلك الأليافَ الدّبْقية تساعدُ العصبونات في ارْتحالها من المناطقِ البُطَيْنية Ventricular Zones وتحت البطينيةِ Subventricular Zones ، وهذا الارتحالُ من وجْهةِ نظر نمائية هو ارتحالٌ عمودي الاتجاه.
التنظيم الفسيولوجي العصبي للقشرة المخية:
أظهرتْ دراساتُ الفسيولوجيا العصبيةِ أن الإشاراتِ المُسَجَّلةِ عند تمريرِ مَسرى مِكْرَويّ (لاحِب مجهري Microelectrode) عموديا (بزوايا قائمة) خلالَ القشرة المخية تُبَيِّنُ أن المَسْرَى يمرُّ في خلايا متشابهةِ الخواص، في حين أن تمريرَهُ باتجاه تَمَاسِيّ Tangential (مواز لسطحِ القشرة) يبينُ اختلافا في خواص الخلايا التي يُعْبُرها المَسْرى، وقد أُظْهِرَ ذلك في كل المناطق القشريةِ الأولية الحسية والحركية، وهذا التنظيمُ العموديّ لخلايا القشرةِ يَعني أن طُبوجرافيا القشرةِ يمكن أن تُصان وأن إعادةَ تنظيمِها في حالةِ تغيُّر المدخولِ المُحِيطي هو عمليةٌ بسيطةٌ نسبيا.
التنظيم الوظيفي للقشرة المخية:
تثيرُ علاقاتُ الأعمدةِ العصبونية القشرية ببعضها البعض عددا من الأسئلةِ المُهِمَّةِ فيما يتعلقُ بالنمَطِ الوظيفيّ للقشرة المخية، وقد افْتُرِضَ في النماذجِ الأوَّليةِ لكيفية معالجَةِ المعلوماتِ في القِشْرة أن تلكَ المعالجة تتمّ بأسلوب تسَلْسُلِي، بحيثُ اعتبرتْ الخلايا القشرية مرتبة في مستويات متعددة تُمَثِّلُ سلسلة هرمية، وبالتالي اعْتُبِرَ أن مستوى واحدا من الخلايا يقومُ بتحليل بسيط ثم يقومُ المستوَى الأعلى بتحليلات أكثرَ تعقيدا، والتنبؤُ النهائيّ لنماذجِ التحليلِ الهرميّ تلك هو أن عصبونا واحدا على رأسِ الهرمِ يُمَثلُ الخليةَ الأم Granmother Cell، إلا أن اكتشافَ أصناف الخلايا العَقَدِية X وY وW، في شبكيةِ العين، أدّى إلى ظهورِ نظرية منافسة تفترضُ أن المعالجةَ القشرية للمعلومات تتمُّ عبر سلسلة من المساراتِ المتوازيةِ Parallel Pathways بحيث يُحَلِّلُ كلُّ مَسار ميزة معينة من ميزاتِ المُثِيرِ الحِسِّي (مثلا اللون أو الحركة في المثير البَصَري)، وهذه النظريةُ لا تَسْتَبْعِدُ نظريةَ المعالجةِ الهرميةِ لكنها تُعَدِّلها إلى نمطِ التحليلِ داخلَ مسارات متوازية منفصلة، وعمليا نجدُ أن القشرةَ تَسْتخدِمُ كلا الطريقتين في معالجةِ المعلومات.
ويجبُ ألا ينظرَ للأعمدةِ العصبونيةِ القشرية كَبِنى فُسَيْسائية ساكنة لأن عمودا واحدا قد يكونُ عضوا في عدد من مساراتِ المعالجةِ المختلفةِ، وقد سُمِّيَ هذا التنظيمُ "نظرية النظامِ المُوَزّع Distributed System Theory"، وهو يصِفُ المخّ كجهاز مركب من الأنظمةِ المربوطةِ ببعضها على نحو واسع، كذلك فإن التفاعلَ الديناميّ للنشاط العصبي داخلَ وما بين تلكَ الأنظمةِ هو الجَوْهَرُ الصرْفُ للوظيفة المخية. وبالتالي فإن عمودا قشريا واحدا يكون عضوا في عدد من الأنظمةِ الموزعةِ لأن كل نظام يكونُ مسؤولا عن مِيزة من ميزاتِ المثير، وعمودٌ واحدٌ أيضا قد يُشَفِّرُ لعدَّةِ ميزات من ميزات المثير، ويمكننا بالقياس مُضاهاةُ ذلك بتخيُّلِ نظامِ شبكةِ أنفاقِ مدينةِ لندن تحتَ الأرضية، وفيها كل محَطَّة تُعَرّفُ باتصالاتها مع المحطاتِ الأخرى، وبالتالي فإن محطة واحدة قد تكونُ جزءا من خطوط متعددة وتمنحُ كلا منها خاصية فريدة، كما تساعدُ تلك المضاهاةُ في توضيحِ اللدونةِ Plasticity داخل الجهاز العصبي المركزي فحدوثُ ضرر أو تلف في محطة ما من الممكنِ تعويضُهُ إلى حدّ ما ببقيةِ الشبكةِ بفضلِ وجودِ بعض الوفرَةِ أو الزيادةِ في التمثيل، ولكن في حالةِ حدوث ضرر شديد (وخيم) خاصة في المراكز المهمةِ أو النهاياتِ المُحِيطيةِ فإن هذا ما لا يستطيعُ الجهاز العصبي التعويضَ عنه وتنتجُ النقائصُ العصبيةُ الدائمة.
المراجع:
Roger Barker, Stephen Barasi & Michael J. Neal (2003) : Neuroscience at a Glance. Paperback
واقرأ أيضًا:
تركيب وانقباض العضلة الهيكلية (المخططة) / السحايا والسائل المخي الشوكي / الإمداد الدموي للجهاز العصبي