بين العرب واليابان مسافة أطول من قرن، ومن غير المعقول أن نقارن ما بين الحالتين، فنحسب أن اليابان قد تقدمت بسبب ما حصل بينها وبين الدولة المنتصرة عليها في الحرب العالمية الثانية ولتوقيعها على الاتفاقيات الناجمة عن تلك الحرب.
هذا خطأ كبير وفادح في تفكيرنا، فاليابان لم تكن وليدة الحرب العالمية الثانية، ولا هي نتيجة لتوقيع الاتفاقيات اللاحقة لها، اليابان بدأت كما بدأ العرب في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، لكنها عرفت كيف تبدأ وتكون وتذلل الصعوبات وتشق طريق التقدم والرقاء، والعرب جهلوا ولا زالوا يجهلون معالم البدايات ومهارات التواصل والارتقاء الحضاري المعاصر، ولحد هذا اليوم لم يتعلموا كيفيات التفاعل البنّاء ما بين التراث والمعاصرة، وإنما تخبطوا وتعثروا وانحرفوا وتراجعوا آلاف الخطوات إلى ما بعد الوراء.
بينما اليابان فعلت مثلما فعل العرب في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، حيث أرسلت البعثات إلى أوربا وأمريكا واستعانت بخبراء تلك الدول لبناء منطلقات وجودها المتواكب مع العصر، وقررت أن تكون دولة صناعية، وأن تدخل ميادين التفاعل الحضاري الجديدة بقوة وإصرار وثقة على الصيرورة الأفضل.
وتفاعلت عقول أبنائها وساهمت في بناء القاعدة الثقافية والفكرية والسياسية اللازمة للانطلاق السليم، ولهذا فإن شركاتها العملاقة وعوائلها الصناعية كعائلة تويوتا ومتسوبيشي وغيرها، قد بدأت في النصف الأول من القرن العشرين ومضت في تقدمها وابتكاراتها المتميزة ولا زالت ترفدنا بالجديد.
وأصبحت اليابان دولة ذات قوة وقيمة عالمية في بداية القرن العشرين، وخاضت حروبا شرسة مع الصين وروسيا وكوريا وخرجت منها منتصرة، وقد تواصلت في حروبها وطموحاتها لبسط سيادتها على مياه المحيط الهادئ على مدى العقود الأربعة الأولى من القرن العشرين، ومضت حتى 1941 حيث هاجمت بيرل هاربر لتحقيق السيادة اليابانية المتفوقة على المياه، فتواجهت مع قوة عسكرية أخرجتها من عرينها ففعلت بها ما فعلت.
وكانت اليابان في تقدم مضطرد حتى خاضت الحرب العالمية الثانية وألقيت عليها قنبلتان نوويتان ودمرت العديد من مدنها، وخصوصا عاصمتها طوكيو التي ألقيت عليها آلاف الأطنان من المتفجرات القاسية، لكن اليابانيون بعدها توجهوا بقدرات هائلة نحو البناء، فشيدوا مدينة طوكيو المعاصرة بعمرانها المتقدم على عمران الأرض، وناطحات سحبها الشاهقة وكل مرافقها الحديثة الراقية. ومضت عجلة التقدم تتسارع، حيث تفوقت اليابان على العديد من الدول الغربية، وأصبحت اليوم حاضرة التكنولوجيا والعلوم التقنية والإليكترونية. ومن يتجول في شوارع طوكيو ينبهر بقدرات اليابانيين على الانطلاق الحضاري والبناء الفكري والتقني المتوثب الخطوات.
إن الاتفاقيات لا تصنع الأوطان وإنما الشعوب هي التي تصنع أوطانها وقوتها بعزمها وإرادتها وفكرها الوطني الخلاق. فاليابان لم تكن دولة ضعيفة وإنما أرادت أن تبحث عن معانى القوة وأوجدت مدارس متنوعة ومذاهب متعددة للاقتراب منها، وحسب منطق اليابانيين فهم يعبّرون عن القوة بجميع صنوفها فمنهم من يعتبرها قوة عسكرية، وآخرون يحسبونها ثقافية وفكرية وزراعية وعمرانية وفنية وجمالية واجتماعية وصناعية وإبداعية وابتكار ومخترعات وغيرها الكثير من التعريفات اليابانية للقوة.
وكل هذه الصنوف المعبرة عن القوة مضت بخطوات متلازمة، وإن انهزمت اليابان عسكريا، أي أن مفهوم القوة العسكري قد انهزم، فإنها لم تنهزم في ميادين القوة الأخرى، وإنما حققت نصرا حضاريا وتأريخيا لا مثيل له في مسيرة البشرية. فهي اليوم ثاني أقوى دولة اقتصادية في العالم وقائدة صناعة السيارات والآلات والمحركات وتقنيات التكنولوجيا والإليكترونيات الحديثة، ولا يوجد بيت في الأرض إلا وفيه شيء من صناعة اليابان، ولا يوجد شارع في الكرة الأرضية إلا ومرقت فيه سيارة يابانية.
فاليابانيون استطاعوا تحقيق الربط المحكم ما بين النظرية والتطبيق وبين الفكرة ورمزها المادي، وتمكنوا من ابتكار الآليات الكفيلة بتعايش الاختلافات الدينية والمذهبية والفكرية، فأوجد المفكرون والفلاسفة الكبار آليات التوافق ما بين الديانتين الشنتونية والبوذية وغيرها من الديانات، بمذاهبها ومدارسها ومناهجها المتنوعة. وبينما نحن لا زلنا لا نعرف آليات الاتفاق على البديهيات، ونستجمع القدرات والوسائل اللازمة للخراب والفرقة والبغضاء ما بين أبناء الدين الواحد والرسول والكتاب الواحد. فقد كانت أول خطواتهم في القرن التاسع عشر هي التخلص من التفاعلات السلبية ما بين الديانات، وتحويل الدين إلى نشاط إيجابي وقوة باعثة للأمل والحياة.
إن بعض الأخوة الذين يتوهمون بأن اليابان قد تحققت بسبب الاتفاق مع المنتصر عليها، إنما يقتربون سلبيا من حالة اليابان ويعبرون عن جهلهم لحقيقة الشعب الياباني ومسيرته الحضارية. فهذا الشعب هو الذي صنع نفسه وبنى وطنه وأبدع المخترعات وابتكر وأتقن الصناعات وتمكن من العديد منها بسبب التفاعل الإيجابي المتميز ما بين أبنائه، وبسبب الإجماع الوطني الرائع على الصيرورة الأفضل والأقوى في الأرض. فالمجتمع الياباني يدين بالعمل والإتقان والدقة والنظام والأتكيتات والأصول الرائعة لكل فعل وسلوك. وهو مجتمع دستوري منظم والقانون له سيادته ودوره في الحياة ، كما أن النظام والسرعة والعزم والإصرار من أهم مميزاته.
واليابانيون حريصون على وطنهم ويعتزون بترابهم ويقدسون الطبيعة، ويخدمون الأرض بكل طاقاتهم ومحبتهم وعزمهم وإرادتهم الصلبة المتطلعة إلى القوة والرقاء والجمال. وهذه مميزات نفتقدها ومواصفات لا نعرفها ولا نهتم بها، ولم يكن عندنا مفكرون وفلاسفة لاستشراف معالم الطريق، وإنما يتدثر حاضرنا بماضينا ليقضي على مستقبلنا، ولا يوجد لدينا تعريف حضاري معاصر للقوة، بقدر ما نمتلكه من تعريفات لا تحصى للفشل والضياع والمآسي والخسران والهوان.
وتبت يدا كان!!
واقرأ أيضاً:
إطلالة على ضفاف الأمل!! / المنطلقات والتفسيرات!! / الكتابات السلبية وآثارها النفسية!! / إصْباحٌ ومصْباحٌ!!