التقديس سلوك منحرف تتخذه المجتمعات العاطلة أسلوبا للحياة، ووسيلة لتبرير عدم المساهمة في العطاء والنماء والابتكار والتقدم المعاصر، وكلما ازدادت المجتمعات تعطلا وعجزا، كلما مالت نحو آليات التقديس والسقوط في وديان الغابرات ومستنقعات الباليات، لتتنفس فيها هواء الجد والاجتهاد. وهذه المجتمعات تتجه نحو تقديس الأفراد خصوصا، حتى ليبدو كل مَن يمتلك نشاطا وتطلعا وقدرة على الحث على النهوض مقدسا، بل إن هذه الصفة قد تنتقل إلى مخلوقات أخرى وأشياء وموجودات جامدة، لكنها تكون رموزا مقدسة وذات معنى وإرادة سلوكية فاعلة في المجتمع.
وعندما يحضر الشأن الديني في الموضوع فإن التقديس يتحول إلى عادة اجتماعية وآلية تفاعلية مفروضة على الواقع القائم، فيكون أدعياء الدين مقدسين، وبهذه الصفة يتحولون إلى آلهة على البشر أن يخنع لهم ويتبعهم بلا تردد أو سؤال. وهذه ظاهرة سلوكية قديمة ولها شواهدها وأدلتها الباقية من الحضارات القديمة سواء في بلاد الرافدين أو الحضارة المصرية. أي أن السلوك البشري لم يتغيير في جوهره وفحواه، وإنما اتخذ مسارات متوافقة مع زمانه ومكانه في معظم الأحيان، فالسلوك بصورة عامة محفوف بالتقديس ومرهون بالتبعية والخنوع المطلق لما هو مقدس ومؤثر في خطوات البشر فوق التراب.
فالملوك والسلاطين في غابر الأزمان كانوا آلهة أو أنصاف آلهة أو أشباهها، فلا يمكن للبشر أن يتحكم بمصير البشر إلا عندما يكون صاحب طاقة خارقة وقوة مطلقة، وهذه هي من صفات الألوهية التي عليها أن تُضفى على البشر لكي يكون حاكما مطلقا. والحكم المطلق نظام سلوكي متجذر في المجتمعات كافة وبلا استثناء، وقد يتخذ مسميات كالقبيلة والعشيرة والفئة والحزب، وغيرها العديد من التوصيفات والتقنينات اللازمة لصناعة الفرد المطلق الصلاحيات أو المقدس وإن شئت الإله. وحتى العصابات يكون رئيسها مقدسا ومطلق الصلاحيات وطاعته واجبة، ولا يمكن إلا تنفيذها والعمل بموجب توجيهاته والخضوع التام لإرادته. أي أن البشر يختزن كيانا تفاعليا مبنيا على هذه الهيكلية السلوكية المتحكمة به وفيه منذ الأزل. وقد تتخذ هذه الآلية الكامنة صياغات وتعبيرات متنوعة لكن جوهرها واحد وثابت، ولهذا فإن البشر في أي مجتمع بين آونة وأخرى يسعى لصناعة المقدس الذي يطلق يده في العبث بحاضره وبمستقبله، كما حصل في أوربا وقارات غيرها تجرعت الويلات والعذابات على أيدي الذين قدّستهم.
والغريب في الأمر أن المجتمعات كلما انحرفت نحو الجهل كلما ازداد ميلها للتقديس، وتحولت إلى لقمة سهلة على موائد المفترسين. فالجهل من أهم العوامل التي تساهم في تقوية السلوك التقديسي لكل شيء في محيط الجاهلين المتورطين بعواطفهم وانفعالاتهم الهوجاء. وظاهرة التقديس البشري من أخطر السلوكيات التي تقضي على البشر، وتحرمهم من تذوق طعم الحياة والتفاعل الإنساني السليم، لأنها تدفعهم للقبول بتحولهم إلى أشياء أو أرقام مصيرها مرهون بإرادة المُقدس ومشيئته العصماء!!
فأين نداء "إقرأ"، ولماذا لا يتفكرون ولا يتعقلون؟!!
واقرأ أيضاً:
العرب واليابان!! / إصْباحٌ ومصْباحٌ!! / الانكماش والانتعاش!! / الذكاء والإخلاص الوطني!!