"قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب وما أنت بمؤمنٍ لنا ولو كنا صادقين" 12:17
تعبير سلوكي بشري غائر في القِدم ومنغرس بجوهر الظلمات النفسية، المحشوة بالمطمورات الوحشية والرعبات والنوازع السيئة. إنه الكذب بما تجمّع حوله من آليات ومعتقدات وتصورات وتطلعات، ودوافع ومحفزات تعزز تكراره وتمجد دوره في أروقة الحياة.
والكذب في جوهره وسيلة دفاعية أولية مضى على نهجها البشر منذ أن صار قادرا على التفاعل مع غيره من البشر، فترسخ السلوك وتطور وإنغرس في نويّات خلاياه، وأصبح من الموروثات الفاعلة والمؤثرة في صناعة وصياغة خارطة سلوكه.
ولا يمكن الجزم بوجود بشر لم يمارس الكذب، ويمكن الجزم بأن البعض من البشر قد برع بالكذب وأوهم الأجيال بأكاذيبه وآليات تسويقها، وترسيخها في أذهان الناس الذين أخذوا يتوارثونها ويقدسونها ويؤسرون بها. والمسيرة البشرية على مر العصور تُظهر أن الكذب هو السيد والسلطان، والبضاعة الأكثر رواجا وربحا وقدرة على الاستحواذ على مصير الناس.
وفي الزمن المعاصر بتوفر وسائل الاتصال والتفاعل السريع، فإن الكذب تحول إلى إمبراطورية فتاكة وقوة ساطية على الآخرين، بترويعهم وتدمير وجودهم وما عندهم من القدرات والطاقات والثروات، ومضت وسائل الكذب بالتطور والتنامي والانتشار حتى غاب الصدق، وأصبح مستضعفا محجورا في زوايا العزلة والشك والنكران.
ويبدو أن الطبيعة البشرية راغبة بالكذب ورافضة للصدق، ولهذا تنامت أسواق الكذب وانحسرت أسواق الصدق، وصار الكذب رائجا والصدق خارجا، وتعممت وتلحّت الأكاذيب، وتمرّست بالنفاق والخداع والتضليل والتمرير والتغرير والتجهيل، واستعباد المغفلين وأخذهم إلى ميادين أنين. والأهمية التي تبرز بكذبة "أكله الذئب"، أنها موجهة لنبي من قبل أولاده، الذين غدروا بأخيهم المحبب لأبيهم وأنه من زوجة غير أمهم، مما يعني أن الكذب سلوك مطلق لا يُعفى منه أتقى واصدق البشر، مهما بلغ من درجات النزاهة والتعبير الأنقى عن الحالات.
وفي حقيقة السلوك البشري انعدام الصدق المطلق وكذلك الكذب المطلق، ففي الحالتين تشابك وتفاعل وتداخل انسباكي قد تنطق به لغات اللسان والبدن معا، لكن القدرة على إثبات الوجهين يتطلب الدلائل والحقائق، فالذي يبدو صدقا قد يصبح كذبا بعد حين، والعكس صحيح. لكن الأمر الواضح أن الكذب له دوره في التغرير بالبشر وأخذهم إلى حيث يريد الكاذبون، ومعظم الأحداث المهمة في التأريخ مرهونة بالأكاذيب بأنواعها، ولولاها لما تمكنت القوى من النيل من الآخرين وافتراسهم، وفي القرن الحادي والعشرين كان للكذب دور أساسي في تدمير البلدان وتهجير الناس من ديارهم والاستحواذ على ثرواتهم وممتلكاتهم.
ويبدو أن البشرية لن تشفى من هذه العاهة السلوكية المتمترسة في أعماقها، والقاضية بضرورة الكذب للوصول إلى ما هو دفين ويسعى للتتعبير المبين.
فهل أن الكذب سيّد وسلطان؟!
وهل صرنا نجتنب قول الصدق وكأن الكذب من الإيمان!!!
واقرأ أيضاً:
النقمة والحكمة!! / أ فلا تعقلون؟!! / التحالف العربي العربي!! / الأقوياء أمام القوي يزأرون!!