وإذا الشمس كوّرت" 81:1
كوّرت: أظلمت، ذهبت، اضمحلت
في يوم 21\8\2017 حدث كسوف كلي وجزئي للشمس في عدد من الولايات الأمريكية وفي أوقات مختلفة من النهار، وكان الناس في غاية الترقب والتوجس والتشوق، وتختلط في أعماقهم مشاعر متنوعة وهواجس متعددة وتساؤلات لا يمكن النطق بها، لكنها ترتدي أزياء الخوف والمجهول وتضع على رأسها تاج الغيب.
هذه المشاعر والأحاسيس والأفكار هي ذاتها التي واجهها الإنسان في بداية رحلته الأرضية، عندما وجد نفسه في مواجهة مع الطبيعة وقوتها وهو بلا حول ولا قوة، ومضى يفتش عن مفردات الطمأنينة والهدوء والقدرة على مواصلة الحياة. وذات المشاعر ربما تجدها في المخلوقات الأخرى، فالكلاب تتصرف بطريقة توجسية وتجدها ترتجف من التغيرات الطبيعية، فأشد حالات الخوف تنتابها عندما تنطق الطبيعة بلسان قدرتها وتعبر عن قوانينها ونواميسها، وبأن كل موجود مرهون بإرادتها.
الكسوف حصل ولبضعة دقائق خلالها انخفضت درجات الحرارة، ولو أن القمر تمكن من حجب الشمس لساعات لحصلت الأهوال، ولتبدلت الأحوال وعم الرعب والخوف من النهاية جميع المخلوقات، وهذا يعني أن الحياة الأرضية ليست آمنة كما نتوهم، وإنما يمكنها أن تزول في غضون ساعات إذا أصاب المنظومة الشمسية خلل، أو تزعزعت نواميسها وآليات دورانها المنضبطة بما لا يمكن تخيله من الدقة والانتظام، وأي خلل مهما كان ضئيلا يتسبب بمتغيرات هائلة.
والكسوف إظلام في وضح النهار، وسرقة للضوء من الأرض لدقائق معدودات، وفيه آية لألي الألباب الذين يتفكرون ويدركون ماهية الذات الحية وموطنها الكوني المتسع الآفاق، فلا يمكن عزل الموجودات عن بيئتها الكونية، ولا يصح القول بأن الأرض كائن بلا جيران أو أنها في تيهان، ذلك أن الكون كائن حي بأجهزة متفاعلة ومتصلة كالبدن الحي، فالصيرورة الخلقية الحية صورة للكون الفعّال القائمة فيه.
وحالة الإظلام تعبير عن كينونات فاعلة في المخلوقات، ومتأكدة في المطمورات النفسية المؤثرة بالسلوك وقدرات ومناهج التفكير، مما تتسبب بانطلاقات سوداوية الطباع، فالنفوس تنكسف أي يجتاحها الإظلام ويتمترس فيها، والفرق بين كسوف الشمس وكسوف النفس، أن النظام الكوني في حركة دائبة ولا يمكنه إلا أن يتحرك، أما النفوس فإن الإظلام فيها يتمترس ويتجمد ويزداد اتساعا وتعفنا حتى يتسبب بولادة الموجعات والمدمرات الفاسيات.
فالكون متحرك والنفس جامدة النوازع والدوافع والمحفزات، وهذا الفرق ما بين الإظلام الكوني والنفسي يأخذنا إلى وعي أسباب التداعيات والتصارعات، الحاصلة في دنيا البشر المنعزل المتقوقع في ما فيه من دواعي الإظلام والحندس الدامس السواد.
ولكي تتكوْنَن النفوس عليها أن تتحرك، أي لكي تتوافق في نبضاتها وإيقاعاتها مع الكون المطلق عليها بالحركة، وحركة النفوس وتوجيهها بحاجة لطاقات وقدرات تفاعلية مبصرة، ذات بوصلات عقلية وآليات تبصرية تخرجها من خنادق الظلمات إلى فضاءات النور، وهذا يفسر ".....ليخرجكم من الظلمات إلى النور"، إنها ظلمات النفوس وأنوار الأكوان، وهذه الإنتقالة الإدراكية الوعيوية هي التي تصنع الأصيل من المعطيات الحضارية الإنسانية، التي تستهدي بها البشرية وتكون عند حسن ظن جوهر ذاتها النورانية.
فالكسوف يدفع المخلوقات إلى الغوص في كشوفات وتحقيق انتقالات إدراكية تؤثر على السلوك، ولهذا فإن سلوك البشر لابد له أن يتأثر بدرجات متباينة بعد مواجهته لظاهرة الكسوف، ولا يمكن أن تمر هذه المواجهة بلا أثر سلوكي وتأثير ترعيبي، وشعور بالضعف والحاجة للانتماء للمجمتمع الإنساني وتغيير زوايا الاقتراب من الآخرين.
ويبدو أن المجتمعات التي تقل فيها الظواهر الطبيعية تزداد توحشا وافتراسا لبعضها، والتي تزداد فيها التحديات الطبيعية يغمرها سلوك آخر يتسم بدرجات أعلى من الهدوء والصفاء، والتفاعل المتضامن والإحساس الدائم بالمصير المشترك.
فهل سيتمكن الإنسان من تنوير دياجير نفسه بالنور المبين؟!!
واقرأ أيضاً:
فأكله الذئب !! / الأقوياء أمام القوي يزأرون!! / أمريكا هي السبب والجميع أبرياء؟!! / إرادة ما فينا!!