تاه من التيهان، وريخ من راخ يريخ ريخا: إذا ذل وانكسر، وريّخه: أوهنه ولانه، وراخ الرجل يريخ ريخا: إذا حار.
وكلما تناولنا التاريخ، ندخل في تيهانات وحيرات، فالتاريخ مفعم بالتيهان والحيرة، ولا يمكنك أن تنتهي منه بنتيجة نافعة وذات قيمة ودور في الحياة المعاصرة، فكل قوة تفصّل التاريخ على قياساتها، ومع تعدد أنظمة الحكم تتعدد المتاهات وتتنامى الحيرة والنتيجة صفر على الشمال!!
والتاريخ بصورة عامة يحتشد بالأضاليل والأباطيل والرؤى والتصورات المُغرضة، لأن الذين يكتبون التاريخ ليسوا صُناعه وإنما يدونونه وفقا لأهوائهم وتصورانهم ومواقفهم ونوازعهم وكيف يقرؤون أحداثه، وما يحصلون عليه من أموال ومنافع. وقد عاصرنا الحالة في العقود السابقة وتمثلت أمامنا آليات التزوير والأكاذيب والتحريف للتاريخ القريب جدا، فكيف الحال مع التاريخ البعيد.
فالذين يكتبون وسيكتبون عن العقدين الماضيين يكذبون ويحرّفون ويسطرون أهواءهم بانفعالية وعاطفية وفئوية وبمداد الدمامل المتقيحة فيهم، وهذا شأن معظم الذين كتبوا التاريخ على مر العصور والأزمان، فما أن ينتهي الحدث حتى يكون التدوين مبنيا على الذاكرة والعاطفة والموقف المُتبنى، وغير ذلك من دواعي تقديم الحدث وفقا لما يبرر مآثم وخطايا ومظالم القوة التي فازت، والتي تريد أن يكون تاريخها مسطورا بأحرف من نور، وتاريخ خصمها بأحرف من نار.
فكتابة التاريخ تعبير عن سلوك بشري بكل ما يتصل به من حالات وتفاعلات ومعطيات، ومؤثرات نفسية ومادية وتقربية من ذوي الكراسي والسلطان، ولهذا تتكرر إعادة كتابة التاريخ وفقا لمقتضيات المصالح الكرسوية، مما يعني انتفاء الصدق وهيمنة الأكاذيب والتزويقات التي تتودد للحكام والأزلام. ومن المعروف أن البشرية قد حُكمت بالنار والحديد فكانت الرقاب تُجز بسبب الكلام، ولا يمكن لكاتب أن يدوّن شيئا لا يتفق ومرام السلطان، ولا يمكنه أن يُظهر الحقيقة، لأن الحقيقة هي ما يُعجب السلطان، وما لا يُعجبه هو العُدوان.
وفي تاريخنا العربي لا بد من النظر للتاريخ بحذر وتمحيص علمي وتدقيق نزيه سليم، لأنه محشو بالفبركات والمرويات المؤلفة لخدمة الأغراض والتوجهات والسياسات والأهداف والأطماع، والعقائد والتصورات والغايات القريبة والبعيدة والنوايا الدفينة والظاهرة. وفي هذا الخضم المتلاطم تتأكد الحيرة ويتحقق التيهان، ولا يمكن لمؤرخ أن ينتهي إلى نتيجة ذات قيمة وتأثير لأن هناك ما يدحضها ببرهان من الفبركات والدسائس والمَحشيات المتداولة عبر الأجيال، فالأكاذيب بتكرارها وتوارثها تصبح أصدق من الصدق المنزوي في أقبية النسيان.
فهل علينا أن نقول "تاه – ريخ" ولا نقل تاريخ؟!!
وهل أن التاه - ريخ هو الذي ألقى بنا في متاهات الحيرة والخسران، ولماذا نعشق التيهان؟!!
واقرأ أيضاً:
تحديد اللامحدود والعقل المصفود!! / الكرة المصرية والإرادة العربية!! / الكراسي العربية الغبية!! / الحريق والطريق!!