بدعوةٍ من الاتحاد العالمي لعلماء المقاومة، وتحت عنوان "الوعد الحق"، "فلسطين بين وعد بلفور والوعد الإلهي"، وتحت شعار "معاً نقاوم ... معاً ننتصر"، التقى في العاصمة اللبنانية بيروت، عاصمة المقاومة العربية، وقلعة الصمود التاريخية، التي هزمت مقاومتها الكيان الصهيوني وطردته، وأخرجته من أرضها ودحرته، وأدبته بعزم رجالها وأوجعته بقوة سلاحها، وأفشلت مخططاته بوعيها، وأسقطت مشاريعه بيقينها، وصمدت أمام تحالفاته وبقيت، وقاتلت جيشه وما وهنت، وأثبتت للعالم هشاشة جيشه وضعف كيانه، وأن بيته وإن بدا قوياً وظهر منيعاً فهو بالنسبة لها أوهى من بيت العنكبوت وأضعف.
ازدانت بيروت بثوبٍ قشيبٍ ولا أزهى، وازينت بصورةٍ بهيةٍ ولا أروع، وتزنرت بقلادةٍ مزخرفةٍ ولا أبدع، إذ التقت فيها ثلةٌ من علماء الأمة الإسلامية، وجمعٌ كريمٌ من أئمتها، يمثلون أكثر من سبعين دولةً عربيةً وإسلاميةً، ويشكلون طيف الأمة الإسلامية العظيمة ومذاهبها السمحة، وأفكارها المعتدلة، ومفاهيمها المتزنة، واجتهاداتها الواعية، تدفعهم فلسطين وإليها يندفعون، ومن أجلها يجتمعون ويلتقون، فهي ناظمة العقد، وجامعة الكلمة، وموحدة الأمة، وموجهة البوصلة، وهي الحق الذي لا زيف فيه، والهدى الذي لا ضلال بعده، والرشد الذي لا سفه يعيبه، فهي آيةٌ في كتاب الله تتلى، وقرآنٌ إلى يوم القيام سيبقى، وفيها المسجد الأقصى، أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، ومسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعراجه إلى السماء.
التقى الجمع العلمائي الموحد الرؤية والمسدد الوجهة والاتجاه، في الذكرى المئوية لوعد بلفور المشؤوم، الوعد الباطل المكذوب، الذي أسس للظلم وبنى للبغي على أرض فلسطين كياناً، وجعل للصهاينة في أرضنا مكاناً، في ظل غفلة العرب وضعفهم، وتفكك المسلمين وانشغالهم، حيث تآمرت بريطانيا والمستعمرون في حينها معها، على الأمة العربية والإسلامية، فاقتطعوا بوعدٍ باطلٍ وعقدٍ فاسدٍ جزءاً عزيزاً من أرضنا العربية، ومنحوا بغير حقٍ أرض فلسطين لمرابين قذرين وسياسيين فاسدين، وجعلوها لليهود وطناً وسكناً، وداراً ووطناً، متجاوزين بذلك الحقوق والعهود، ومخالفين للقوانين والأصول، إذ أخرجوا من فلسطين شعبها، واستجلبوا إليها غرباء من غير أهلها، ووافدين أجانب إلى أرضها، فاستوطنوا فيها واستولوا عليها، وطردوا أهلها ودنسوا مقدساتها، وغيروا معالمها وشطبوا هويتها، وزوروا تاريخها وبدلوا ثقافتها.
وعد بلفور هو الذي أسس للظلم، وهيأ لحالة عدم الاستقرار في المنطقة، عندما زرع البريطانيون في أرضنا جسماً غريباً عنّا، ووطنوه في أرضنا رغماً عنّا، ومكنوه بالسلاح، وعززوه بالقوة، وحصنوه بالسياسة، وما زالوا يكلأونه بالرعاية ويكفلونه بالوصاية، ويغدقون عليه بالمساعدة، ويتعهدونه بالتفوق والتميز، وهم يعلمون أنه يستقوي بهم على أصحاب الحق، ويرهب بسلاحهم سكان الأرض، ويهدد بدعهم دول المنطقة وشعوبها. ولعل بريطانيا قديماً واليوم، تتحمل كامل المسؤولية عن هذه الجريمة النكراء، التي هي أكبر جرائم العصر وأشدها قبحاً وسوءاً عبر التاريخ، ويشاركها في جريمتها دول أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، الذين سكتوا عن فعلتها وقبلوا بها، بل أيدوها وساندوها، وتعاهدوا معها على حماية الكيان الصهيوني وتحصين وجوده، وضمان أمنه وسلامة مستوطنيه، وتأمين مستقبله والحفاظ على مصالحه.
اليوم وبعد مائة عامٍ على هذه الجريمة، ينبغي على حكومة بريطانيا أن تتراجع عن هذا الوعد، وأن تعتذر لشعب فلسطين وللأمة العربية والإسلامية عنه، وأن تعلن أسفها عن خطأها التاريخي وجريمتها الكبرى ضد المسلمين خصوصاً والإنسانية جمعاء، وأن تبادر من موقعها في مجلس الأمن الدولي ومعها الولايات المتحدة الأمريكية إلى المباشرة في إبطال مفاعيل هذا الوعد، وإعلان فساد الكيان الذي نشأ عليه وعدم شرعيته، في الوقت الذي يجب عليها أن تعوض الفلسطينيين عما أصابهم، وأن تعيد إليهم حقوقهم المغتصبة وأرضهم المحتلة وممتلكاتهم الضائعة، وسيادتهم المفقودة في وطنهم وأرضهم التاريخية فلسطين.
وعلى العالم الحر والإنسانية الحضارية أن تحاكم بريطانيا على جريمتها، وأن تعاقبها على فعلتها، وأن تحاسبها عما ارتكبت في حقنا، وأن تدين السياسيين على جرمهم القديم وسلوكهم المشين، وألا تبرؤهم من بشاعة ما اقترفوا، وهول ما قاموا به، خاصةً بعد تصريحات رئيسة الحكومة البريطانية التي أعلنت فيها فخرها بدور بلادها في تأسيس الكيان الصهيوني، واحتفت بإحياء الذكرى المئوية لوعد بلفور، ورفضت الاعتذار إلى الشعب الفلسطيني، لهذا فإن على المحاكم الدولية أن تعيد النظر في هذه الجريمة، وأن تكيفها قانوناً وتصدر أحكامها فيها وفقاً لحجم الضرر الذي نشأ عنها، والآثار السلبية التي لحقت بالفلسطينيين جميعاً، والأضرار التي تعرضوا لها وجعلت منهم لاجئين مشتتين، ونازحين مطرودين من أرضهم.
وعليها أن تدعو اليهود الذين وفدوا في ظل انتدابها، وجاؤوا إلى فلسطين مهاجرين إليها واستوطنوا فيها، مستفيدين من سلطاتها ومستغلين تعاطفها، إلى مغادرتها فوراً، والعودة إلى بلادهم التي جاؤوا منها وأوطانهم التي ينتسبون إليها، في الوقت الذي يجب عليها أن تعيد المواطنين الفلسطينيين إلى أرضهم، وأن تمكنهم من العودة إلى ديارهم ومدنهم وبلداتهم وقراهم، التي دمرها الكيان الصهيوني وأخرجهم منها، وعليها أن تعلن عن بطلان كل الإجراءات التي بنيت على هذا الوعد الباطل، وفساد كل التشريعات التي تلته واستندت عليه، وعدم شرعية ما تم البناء عليها، وعدم قانونية التغييرات التي جرت على أرض فلسطين التاريخية كلها، وهي الأرض التي كانت تحت سيطرة الانتداب البريطاني منذ انتهاء الحرب العالمية الأولى.
لكن الحقيقة أنه لا شيء يبطل وعد بلفور وينهي مفاعيله، ويعيد فلسطين إلى أهلها سوى المقاومة، التي تبدو اليوم فتيةً عنيدةً قويةً، تقف في مواجهة العدو الصهيوني شامخةً، وتتحداه وتهدده، وتصده وتمنعه، وتخيفه وتردعه، وترعبه برسائلها وتقلقه بإشاراتها، وتجمده مفاجئاتها في أرضه وترعده تصريحاتها، إذ باتت المقاومة تراكم القوة، وتعد العدة، وتجهز للمواجهة، وتحذره من مغبة المغامرة وعاقبة المجازفة، فهي مقاومةٌ لم تعد تصد عدوانه وحسب، وتقاتله على أرضها وتكتفي، بل باتت تهدده في حصونه، وترعبه في مستوطناته، وتتوعده حيث يكون، وتنصحه بالرحيل والمغادرة، فهذه الأوطان ليست له، وهذه الأرض ملكٌ لأصلاء غيره، وأصحابها يتمسكون بها وإليها مهما طال الزمن سيعودون، وفيها سيعيشون، ولها من رجسهم سيحررون.
بيروت في 4/11/2017
واقرأ أيضا:
في ماليزيا همومٌ فلسطينيةٌ وآمالٌ إسلاميةٌ / المصالحةُ تغيظُ الإسرائيليين والوحدةُ تثير مخاوفهم / رحيل نتنياهو حاجةٌ وطنيةٌ وضرورةٌ شخصية / تبريد الجبهة في غزة مطلبٌ إسرائيلي وحاجةٌ فلسطينيةٌ