التعريف المعاصر للذكاء لا يأتي من المقاييس والتقديرات الاختبارية، بل من مدى القدرة على رؤية المستقبل، فالذي يمتلك هذه القدرة يكون متفوقا ومتقدما على غيره، لأنه يتصرف بآليات ذات تأثيرات متوافقة وإيقاعات الآتي الأكيد. ومن المعروف أن المخلوقات الأرضية ذات قدرات حسية وإدراكية محدودة، وهي في حقيقة وجودها مقيدة أو محبوسة في مديات تلك الحواس والمدارك، فهي لا ترى كل شيء ولا تسمع كل صوت، أو تدرك كل فكرة وحالة قائمة في واقعها الأرضي، وإنما هي ذات قابليات نسبية قد تتفاوت بينها لكنها تبقى مقيّدة ومحصورة في داوائر ضيقة.
وعلى سبيل المثال زرقاء اليمامة المذكورة في المرويات ذات ذكاء متفوق على غيرها لأنها ترى أبعد منهم، أي أنها يمكنها أن ترى ما سيحصل بعد يومين أو أكثر، والذين يرسمون خرائط الآتيات هم أذكى من الآخرين الذين يتدحرجون في مسارات تلك الخرائط. فالدول القوية ومنذ عصور تخطط لما تريده وما سيكون عليه الحال بعد ربع قرن أو نصف أو أكثر، فالقوى الكبرى بعد الحرب العالمية الأولى خططت لحقبة ربع قرن، وبعد الحرب العالمية الثانية لحقبة نصف قرن، وفي بداية هذا القرن فإن الخرائط موضوعة لما سيكون عليه العالم في قرن كامل.
وهذا يعني أن الذين يمتلكون الخرائط ويرسمونها أذكى من الذين يتدحرجون على دروبها وينبطحون بأحداثها، ذلك أن الخرائط المرسومة تأخذ بنظرها ردود الأفعال وما سينجم عنها وكيفيات توظيفها لخدمة الخرائط، ولهذا نرى الدول الضعيفة في دوامة ردود الأفعال المطلوبة لتنفيذ الخرائط السياسية والجغرافية والامتلاكية للثروات والشعوب. ومشكلة الدول الضعيفة أنها تتمتع بغباء، بمعنى أنها لا تمتلك نظرة مستقبلية ولا خرائط صيرورة ولو لبضعة سنوات قادمات، مما يدفعها لتكون مجرد حالات ذات ردود أفعال انعكاسية تكلفها كثيرا وتزيدها ضعفا وهوانا، لأنها لا تتوثب بل تتجمد وتنتظر وخزة من هنا وطعنة من هناك لتئن أو تنزف أو تنفعل وترد بعاطفية حمقاء.
ولو نظرنا إلى العديد من المجتمعات المعتقلة بصراعاتها وحروبها الداخلية، لتبين لنا بأنها تعيش في دوامة ردود الأفعال المطلوبة وفقا لما تمليه إرادة الخرائط المرسومة، وبذلك تبدو الدول القوية أذكى من الدول الضعيفة، لأنها امتلكتها واستعبدتها وسخرتها لتنفيذ أجنداتها المرسومة بدقة وإحكام. فالعيب ليس بالعقول والقدرات وإنما بالسقوط في أوحال ماضوية وأصفاد غابرة تمنع الرؤية المستقبلية، وتوظف الطاقات للتفاعلات الانعكاسية الدامية الفتاكة التطلعات، والمجسدة لمفردات المرسوم على خرائط الويلات والافتراس الخلاق للصيرورات والشعوب.
فهل من إرادة مستقبلية وآليات استشرافية لغدٍ تحلم الأجيال أن يكون سعيدا؟!!
واقرأ أيضاً:
العقل العربي وغرابة التحليل!! / إقلاق وإملاق!! / كليبتوقراطية: نظام حكم اللصوص/ الماضوية والمستقبلية!!