أول عهدي بالمدرسة كنا نتعلم الأحرف الهجائية في القراءة الخلدونية، وأخذنا نجمع الحروف إلى بعضها ونصنع منها كلمات ونتعرف على الأسماء، وكنا نذهب للمدرسة (مدرسة سامراء الابتدائية الأولى)، التي تقع في الركن الذي يربط بين شارع القاطول وشارع الإمام أو البنك سابقا. وعلى سور المدرسة من جهة شارع القاطول، كانت كلمة كبيرة وطويلة مكتوبة باللون الأحمر هي (فلسطين)، وما كنا نعرف معناها فإجتهدنا بلفظها ورحنا نردد "فلس + طين"، وتحولت إلى ممازحة ومن ثم لعبة، على شاكلتها أخذنا نصوغ الكلمات ونبتكرها، فنأتي بمسميات ونضعها مكان فلس وطين، ونمضي في لعبتنا الكلماتية كل يوم.
ولا زلنا لا نعرف ما معنى كلمة "فلسطين"، ففي وعينا كانت لعبة نأنس بها ونبتكر كلمات جديدة على شاكلتها، حميدة وغير حميدة، في دوامة اللعب الذي يأخذ معظم وقتنا، ولم ندركها، إلا ذات يوم عندما اقترب منا شاب وقد غضب على ما نقوم به فنهرنا، وهو يقول، إنها فلسطين، ومضى مزمجرا بغيرة فائقة، وهو يلقي خطبة لم أفهمها في حينها، لكننا عرفنا بأن ما نقوم به شيء غير صحيح، فبقينا ننظر إلى بعضنا والخوف يكتنفنا، وعندما ذهبت إلى البيت سألت أمي عما حدث، فأوضحت لي معنى (فلسطين) وقصت لي الحكاية، فتركت تلك اللعبة!!
ومنذ ذلك العمر وفلسطين ترافقنا، وما وجدت لها مخرجا أو حلا وإنما هي تدحرج إلى الوراء، حتى وصلت إلى ما هي عليه اليوم، وكأنها تهاوت من كونها قضية العرب الأولى إلى القضية رقم مئة!! وكلما تأملت ما جرى أعود إلى لعبتنا (فلس + طين)، وأحيانا أدرك أن طفولتنا البريئة كانت تتنبأ بمصير القضية، وما هي إلى فلس بعد أن كان مضافا إليه طين، صار مطروحا منه طين، فهي اليوم "فلس - طين"، أي فلس ناقص طين، ولا أدري في هذا القرن هل سيبقى الفلس على حاله، أم سيتم تحويشه وتنتهي اللعبة مثلما انتهت لعبتنا بالذي نهرنا وردعنا بغضب شديد. ولن ينفع بعدها توضيح أمي لمعنى الكلمة، ولن تفيد تمائم الخاملين الخامدين القابعين في أوعية التبعية والخذلان والهوان المشين.
فأين الفلس وأين الطين؟!!
أمة تتهاوى وتفقد أبسط حقوقها بعد مسيرة عقود من اللعب واللهو، والتبجح بالكلمات والشعارات والخطابات، والعنتريات والتحزبات والفئويات والثورات والانقلابات، وها هي اليوم تنخرها التصارعات المتفاقمة والمشاكل المتعاظمة، وأعداؤها يستثمرون بما فيها من تناقضات ويوفرون لها مؤهلات الجزر السريع والدمار الفظيع والخراب الشنيع. ووفقا لآليات تقسيم المقسم وتجزئة المجزأ، فإن فلس لن تعرف طين، وأن أبناء القضية يتلاحدون ويندثرون ببعضهم وينقرضون، ما دام الدين من أروع أسلحة الدمار الشامل التي ستبيد العرب عن بكرة أبيهم، وليفرح الطامعون فيهم، ويشربون أنخاب النصر المؤزر بدين!!
ويا ليت الأمة قد أصغت للعبتنا الطفولية (فلس + طين)، واستلهمت منها مسارات ذات قيمة واقعية ومنطلقات حضارية، لكن هيهات، فقد سقط الجدار الذي كان يتباهى بكلمة (فلسطين)، وصار أجردا تعشعش عليه لافتات سوداء ذات داء مبين!!
واقرأ أيضاً:
نواعير الكراسي ودوّامات المآسي!! / مفيش سياسة!! / عندما تفقد مالك يضيع حالك؟!! / هل ما كان يكون؟!! / التكريه بالعرب!! / حيتان كبيرة وأسماك صغيرة!! / الحياة تحكمنا!! / القوى الكبرى تريد استثمارا بالمشاكل لا حلا لها!!