بالعلم قاوم (1)
عمر، هذا الشاب المقدسي البالغ 14 سنة، كان يمشي من ذلك الزقاق المفضي لإحدى طرق بوابات الأقصى حين تعرض له مجموعة من جنود الاحتلال، فقام أحد الجنود بدفعه للحائط بقوة، كان هذا الشاب الصغير أسمر القسمات قبل أن تختلط قسمات وجهة بالدم القاني الذي سال من أعلى رأسه نتيجة للطمة قوية من أحد الجنود على رأسه.....وتستمر الحكاية.
في القصة السابقة لن تمتلك إلا أن تشعر بالرحمة تجاه عمر وبالتعاطف معه، حيث أن قصة عمر قد أحيت داخلك الرحمة فهو شخص حي وقصته تتنفس، فما كان منك إلا أن أطلقت العنان لعقلك لتتصور قسماته وتلونها بألوان الحزن والأسى، وفي المقابل تحرك في داخلك الغضب تجاه الجنود وعدوانهم.
في الدراسات النفسية لسلوك الرحمة/ الشفقة Compassion، تم دراسة تطور هذا السلوك،وكيف يمكن توسعة مداه بحيث يتم توظيفه تطبيقياً في المجموعات والجماعات، وقد وجد أن الطفل الرضيع سيبدي أولى إشارات سلوك الرحمة إذا بكت أمه بمد يده لعينيها، وفي حال بكى طفل جانبه سيبدو هذا السلوك بمحاولة الربت عليه أو إعطائه لعبة كانت في يده.
لكن من أهم توظيفات العمل على استجلاب سلوك الرحمة هو العمل على زيادة التعاطف مع قضية ما أو شعب ما، ولكن هنالك شروط أساسية ليزيد ويتوسع سلوك الرحمة، ولقد نجح الصهاينة في هذا العمل من خلال توسيع سلوك الرحمة اتجاه المسألة اليهودية كما يسموها، وقد وظفوا تطبيقات كسب التعاطف والرحمة لأعلى حد ممكن في سياستهم العالمية.
آن فرانك هو اسم مشهور في العالم الغربي لتلك الطفلة التي اختبأت من مذابح النازية، ثم ماتت في معسكر الاعتقال، ولكن والدها الناجي الوحيد من أسرته من تلك المذبحة اكتشف مذكراتها التي كتبتها ونشرها عام 1947 حيث صارت آن وقصتها من أشهر قصص أوروبا ولاقت القصة رواجاً ووسعت من مستوى التعاطف والرحمة اتجاه اليهود حتى بالرغم من احتلالهم لفلسطين في تلك الفترة وإعلانهم لدولتهم في عام 1948 أي بعد عام من نشر مذكرات آن.
الحقيقة أننا من خلال سلوك الرحمة نعاني لمعاناة الآخر، ونصبح شديدي التعاطف معه ومع قضيته، ومن أهم طرق امتداد سلوك الرحمة بقلبك ليتسع لقضية ما أو شعب ما أو شخص ما هي من خلال الإقناع Persuasion، ويكون ذلك من خلال عرض قصة لشخص يبدو حقيقياً بحيث تشعر بحقيقة وجوده وحقيقة معاناته، وكما قال ستالين "الموت الفردي مأساة حقيقية، لكن مليون حالة موت هي عبارة عن إحصائية".
ولذلك أتت قصة آن لتناشد النظام الطبيعي المدمج في داخل الإنسان الأوروبي لتستثير الرحمة والشفقة والعطف، فقصة شعب كامل ستكون كأنها إحصائية وأرقام، أما قصة معاناة شخص فهي تصل لأعمق نقطة في قلب من يسمعها.
ما نراه في قضية فلسطين أننا كنا عاجزين ولزمن طويل عن مناشدة النظام الطبيعي في قلوب البشر بشكل صحيح، فنحن نتكلم بالقضية والشهداء لكن ما يسمعه أفراد المجتمعات عبارة عن أعداد وإحصائيات، وهذه الإحصائيات ليس لها النفاذية لداخل القلوب والنظام الأخلاقي البشري ومشاعر الرحمة كما هي قصة فردية، ويكفي هنا أن نتذكر قصة الطفل الشهيد (محمد الدرة) وكيف احتلت هذه القصة ومشهد القتل وعي الناس أكثر مما احتلته أعداد الشهداء والجرحى، لدرجة حاول الإعلام الصهيوني دبلجة المشهد وتلفيق قصة أن هذا الطفل من أطفال اليهود، وذلك لعمق معرفتهم بمدى تأثير قصة الفرد على النظام العاطفي والأخلاقي النفسي في داخل الإنسان.
درس اليوم يعكس مدى حاجتنا لتوظيف الدراسات النفسية والاجتماعية لدعم قضايانا العادلة والنفاذ لحدود التفاعل العاطفي والأخلاقي من قبلنا ومن قبل الآخرين لجعل قضايانا جزء من وجدان الإنسان، فمن يعمل لقضية عادلة يجب أن يعمل بعلم ومعرفة، لأن العامل بجهل قد يطمس قضيته وهو يظن أنه يحسن صنعا.
10-12-2017
* سلسلة تبحث في توظيف علم النفس في القضايا العادلة.
ويتبع>>>>> : بالعلم قاوم (3)
واقرأ أيضأً:
الرِّعاية النَّفسية / العبث بالعقل: الحلقة12 / صناعة الهدر / أيها المبتلى بالوهم : الموهومون / نحمل في داخلنا (٢) : الحاجة للأمان