المفكرون العرب عندهم وسوسة بأن الأمة قد مرت بفترة انحطاط لعدة قرون مما تسبب بما هي عليه، وكأن مجتمعات الدنيا لم تكن أشد انحطاطا وتخلفا من المجتمعات العربية في الفترات التي يتحدثون عنها، وفي هذا الاقتراب اضطراب إدراكي وانحرف تقديري ووعيوي للواقع الذي يتصدون له. فمجتمعات الدنيا وبلا استثناء مرت بفترات قاسية وطويلة عانت فيها من العديد من الآفات السلوكية والنفسية والفكرية والاعتقادية، وأوربا بجميع دولها عانت منها وقاست لقرون.
وهذا الاقتراب العربي التعجيزي الترسيخي هو السائد في رؤى وتصورات معظم المفكرين العرب، وكأن ما يسمونه انحطاطا هو الطامة الكبرى والنهاية الحتمية للعرب، وعلى ضوئه يفسرون ويحللون ويؤولون.
والواقع أن العرب كأية أمة أصابهم ما أصاب غيرهم من الأمم، لكن بعض الأمم سبقتهم للخروج من محنتها وشقت طريقها نحو المستقبل، وبهذا السبق تعلمت كيف تفترس غيرها ومنهم العرب، وبعض الأمم المُفترَسة تعلمت كيف تتحرر من أنياب ومخالب المفترسين لكن العرب استلطفوا ذلك، ورسخه في سلوكهم المتاجرون بالدين الذين يريدون قطيعا يتبع ويخنع، وممنوع من التفكير. وتلك الأمم التي كانت أشد انحطاطا وتلفا من العرب أعملت عقلها وتحررت من قيود التفكير، وأدركت أن عليها أن تلد قياداتها المنورة القادرة على أخذ الناس إلى آفاق مستقبل رحيب، فكان لقياداتها الدور الأمثل في انتشالها وإطلاق قدراتها وبناء حاضرها ومستقبلها.
والعرب أمة سبّاقة في التنويرين وعلى مر العصور، وما خلى قرن في مسيرتها من الثوار والمفكرين والمنورين، لكن أزمتها في القيادة، فأمة العرب بلا قيادة منوّرة وقادرة على الاستثمار في الطاقات والقدرات العربية، ويلعب المتاجرون بالدين دورهم السلبي في تعزيز الانحطاط وتعطيل العقل العربي. فالمجتمع العربي لم يكن أشد انحطاطا من المجتمع الصيني في خمسينيات القرن العشرين، لكن توفر القيادة الصينية نقلته إلى المعاصرة والتفاعل المتطور مع زمانه ومكانه، بينما المجتمع العربي أمضى النصف الثاني من القرن العشرين ولا يزال في دوامة الانقلابات العسكرية والحروب والتصارعات، وخلت الساحة العربية من القيادة المعاصرة القادرة على تحقيق التقدم والازدهار، فتردى التعليم أو أهمل، وسادت مفاهيم ومعايير خسرانية تدميرية استنزافية، فأهملت الزراعة والصناعة وتدهورت النشاطات الاقتصادية بأنواعها، وعلى مر العقود والعرب يستثمرون بالجهل والأمية والتضليل والبهتان وسَوق الناس إلى أتون الويلات، ويأتيك من يتمنطق بالانحطاط والانقطاع وما يحلو له من التفسيرات التعزيزية التسويغية للقنوط واليأس والعجز المبيد.
ولا يُعرف على أي الأسس يتم القول بأنهم مفكرون، وماهم إلا مرسخون ومؤكدون لحالة التدهور والضعف والهوان، بما يقدمونه من تبريرات سلبية لا تقنع أي صاحب عقل فاعل، لكنها محببة لذوي العقول المنفعلة الذين تقودهم قدرات القوة السيئة اللاواعية المهيمنة على سلوكهم وكل ما يبدر منهم. وليس ذلك كذلك، وإنما على الأمة أن تنجح في تولية خيارها عليها، وتتمكن من تأسيس أنظمة حكم وطنية تستمد قوتها من الشعب الذي تؤمن به وتعمل من أجله وتهتم بمصالحه، لا بمصالح الآخرين، فمعظم أنظمة الحكم العربية ذات أجندات لا تخدم الإنسان العربي، وإنما هي لخدمة أعداء العرب، وأي قول غير ذلك فيه الكثير من الميل لتحقيق مشاريع أعداء العرب.
فالعرب أمة حضارة وفكر وإبداع ونبوغ وقوة وانطلاق مطلق، فهل ستتحرر من أهوال الكراسي ونواعير المآسي، لكي تتفاعل بعقلها الحرّ المنير، وعندها سينحط كل موسوس بالانحطاط!!
واقرأ أيضاً:
وطن تشيّده السواعد..!! / رهائن قال!! / أيهما أولا, الأفكار أو الأموال؟!! / أصوات أطفالنا تنير عزائمنا!!