كانت في سامراء مكتبة عامة تم تشيدها زمن المملكة العراقية، وكانت ذات طراز عمراني عباسي يشبه بناء مدرسة سامراء الابتدائية الأولى، وكانت زاخرة بالكتب، وفيها حديقة غناء وقاعة مطالعة، وقاعة أخرى للقاءات والاجتماعات والنشاطات الثقافية ومطالعة الطالبات. وكانت المكتبة ملتقانا ومرتع تفاعلاتنا المعرفية، وقد بلغت ذروة نشاطها عندما كان مديرها المرحوم الأستاذ البدري الذي كان يتعهدنا بالرعاية ويوجهنا فيما نقرأ، وكان يدرس ميولنا من خلال ورقة الاستعارة لنستلم الكتاب.
وفي هذه المكتبة تعرفت على عباس محمود العقاد، ومضيت معه في رحلة قراءة كتبه المتوفرة فيها، وبعدها قمت بجمع كتبه وإعادة قراءتها مرات ومرات، ذلك أنها كانت تعلّم الكتابة وتثري المعجمية اللغوية، وفيها مناهج موضوعية للدراسة والتحليل والمحاججة أو المناظرة والمجادلة، فكانت تمنح لغة وأسلوبا وتثري معرفيا، ولا تزال كتبه ترافقني وأقرؤها رغم أني قد قرأتها مرارا.
ومن كتبه، عالم السدود والقيود، اللغة الشاعرة، مجمع الأحياء، عقائد المفكرين، الإنسان في القرآن الكريم، الفلسفة القرآنية، وكتب العبقريات والتي ضمها كتاب ضخم بعنوان إسلاميات، التفكير فريضة إسلامية، معارك العقاد الأدبية، هذه الشجرة، الديمقراطية في الإسلام، حياة قلم وكتب شعر، وغيرها العديد من الكتب المتميزة. وهي كتب أشبه بالبحوث والدراسات التي تتبع منهجا واضحا وتستند على الأدلة والبراهين والبينة الواضحة، وبأسلوب علمي يساهم في الإقناع والرد الوافي معرفيا. وقد بذل جهدا نادرا في تأليفها، وهو من أعلام الثقافة العربية الذي برز وعاش في زمن التألق العربي المصري، الذي كان عصرا ازدحمت فيه المواهب الأدبية والفكرية والصحفية والفنية والثقافية والسياسية، حتى تحولت مصر إلى مسرح إبداع وعطاء أصيل ساد البلاد العربية وهيمن على التفكير العربي في كل مكان.
وهؤلاء العمالقة النوابغ شكلوا تفكيرنا وذوقنا ورؤيتنا وآليات اقترابنا من التحديات المعرفية، وزوّدونا بعدة منطقية وذخيرة لغوية وأسلوبية أسهمت في تكويننا الفكري والثقافي والعلمي، وأطلعونا على فضاءات من التفكير الذي يؤهل لبناء المستقبل الأرقى والأقوى. والعقاد يتميز بينهم لأنه كان يخوض معارك أدبية وفكرية وصراعات حامية مع العقول المعاصرة له، أدت إلى إطلاق مكنونات ثقافية ذات قيمة معرفية، فالمعارك الفكرية لها دورها في استنهاض العقول من غفوتها، ورفد الأجيال بطاقات التحدي والوعي الضروري للذود عن ذات الأمة وهويتها وحاضرها ومستقبلها. ومعاركه كانت مساجلات فكرية ثقافية شملت معاصريه كالرافعي وأحمد شوقي وطه حسين وسلامة موسى وتوفيق الحكيم، ولم يسلم منها حتى جميل صدقي الزهاوي والدكتور مصطفى جواد.
تحية تقدير للكاتب عباس محمود العقاد في ذكرى رحيله (28\6\1889-13\3\1964) وقد أثر في العديد من فرسان القلم العربي، فهو الكاتب الشاعر الأديب الفيلسوف المفكر الذي يُعد من عمالقة الأدب العربي والثقافة العربية في القرن العشرين.
وبه وبأمثاله يستوجب الفخر!!
واقرأ أيضاً:
سنكون عندما نريد أن نكون!! / ما يحبه وما لا يحبه الله!! / صناعة الحياة!! / الطرق على الأبواب لا ينفع يا عرب!! / تحالفوا وتآلفوا يا عرب!! / الانتكاب والانتهاب!!