الريح قوة هائلة لا يمكن الوقاية منها مهما توهمنا وتصورنا، فلن ينجو من الرياح إلا الذين في المغارات والحفر، أما أي موجود فوق التراب فإأنه عرضة لصولاتها وهجماتها الفتاكة القاسية. والبارحة كنت أرقب ريحا بسرعة ثلاثين ميلا في الساعة، وأعيش تأثيراتها وما تثيره من مخاوف وقلق في نفوس المخلوقات والنباتات، وكيف أنها تؤثر على الحياة وتعطلها وتمنعها من التواصل، وكأنها تذّكر كل موجود بسلطة الطبيعة وإرادتها التي لا تُقهر.
وكانت الأشجار تتمايل مرعوبة، وتتساقط منكوبة بهجمات الرياح المتوالية، والتي تزعزع مواطن جذورها، فتهاوت العديد من الأشجار الباسقة، ولو أن المطر قد رافق الريح لتساقطت عشرات الأشجار. فتخيلوا ماذا سيحصل لو أن سرعة الرياح أكثر من مئة ميل في الساعة، وهي التي ربما تسمى الريح الصرصر، التي لن تبقي منزلا أو موجودا فوق الترب إلا وعصفت به وفتكت بوجوده وحولته إلى حطام.
ويبدو أن العلاقة ما بين النفوس البشرية وسلوك الرياح ذات إيقاع متبادل وتأثير متناغم، فإذا تشررت النفوس وتعزز ما فيها من الرذائل غضبت الريح وتأهبت للصولات القاسية، وإذا تخيّرت النفوس وامتلأت بالفضيلة والمحبة والخيرات، فإن الرياح تهدأ وتساهم في رعاية ما في النفوس من فضائل. فالقانون الفاعل في الأرض له معادلاته الدقيقة وتوازناته الشفافة التي لا تقبل الخطأ، ولا يمكنها أن تحيد عن ميزان الإتقان والانضباط المُحكم الرصين، الذي يحقق الديمومة ويؤكد السرمد والبقاء الخالد، فما يجري في أعماق كل مخلوق يتواصل مع ما هو قائم في أعماق كون سحيق، والنفوس البشرية انعكاسات للأعماق الكونية وتفاعلاتها الصيروراتية التي تؤمن البقاء وتمنح الرجاء والنماء.
والريح الصرصر تقع ضمن هذه المعادلات والقوانين الفاعلة في الوجود، ولهذا فإن للبشر بما فيه تأثيرات على سلوك الطبيعة، مثلما يؤثر في سلوكيات الموجودات الأخرى من حوله. ومن الواضح أن النفوس النقية الطاهرة المعطرة بالطيبة والصفاء يمكنها أن تستحضر النسائم الندية المتهادية، التي تبعث السعادة والأمن والأمل وتبعث في الأعماق الخلقية روح الحياة الإنسانية الزاهية، أما النفوس المتسخة بالآثام والشرور فإنها طاقات سلبية تستجلب ما يتوافق معها، ومنها الرياح الشديدة التأثير على الحياة بما تحمله من نواكب تحققها صولاتها الشديدة الدمار.
ويبدو أن الريح التي كانت قوية ما هي إلا إنذار وضوء أحمر يحذرنا من تفاعلات ذات شرور، ونوايا ذات ثبور، وعلينا كبشر أن نرعوي ونستيقظ من غفلة العدم، ومن هذا العمه في حندس الرغبات والنوازع والتطلعات الدونية، التي أفنت الإنسانية وأصابتها بأوصاب التداعيات البهتانية.
"وأما عادٌ فأُهلِكوا بريحٍ صَرْصَرْ عاتية" 69:6
واقرأ أيضاً:
تحالفوا وتآلفوا يا عرب !! / الانتكاب والانتهاب!! / عباس محمود العقاد في مكتبة سامراء العامة!! / غياب العدل خراب العقل!! / الحروب ضروب!!