رحى الطواحين تدور على أبدان الذات المنهوكة المنكوبة بالويلات والتداعيات والقهر المقيم، أوالوجع الأليم والشعور بالسام والندب الرجيم. هذه الطواحين تستمد طاقات تدويرها من الفكر السقيم، وتمضي في سحقها لمدلولات ومفردات الذات الساعية نحو الجد والاجتهاد والعمل الرحيم. وقد انتشرت في أرجاء المجتمعات الخالية من قدرات التفاعل الإيجابي التلاحمي، المؤكد لمصالحها المشتركة وتطلعاتها العزيزة، الكفيلة بإيصالها إلى آفاق التواجد المعطاء المؤزر بالأخوة والألفة والرجاء. وهذه الطواحين ذات قدرات تدميرية وطحْنية أشد تأثيرا من أعتى صخور الطواحين الدوارة بقوة الرباح أو المياه أو المحركات الديزلية والكهربائية.
وكل عمامة عبارة عن طاحونة فكرية وسلوكية تسحق الموجودات من حولها، وتحيلها إلى طحين تعجنه وتخبزه على مرامها وهواها، وتضعه في قوالب وأفران وفقا لما تشتهيه وتقرره مصالحها ورغباتها، وما مطمور فيها من النوازع والدوافع والندهات.
الطحن السافر والمروع تقوم به الأحزاب والكراسي والفئات والمجاميع، التي تلد من بينها مَن يقوم بتدوير الطاحونة الكفيلة بتدمير الذات المرهونة، وتفتيتها وعجنها وخبزها وأكلها وفقا لميقات الجوع والشبع. والكثير من المجتمعات تعاني من الطواحين الناشطة في إتلافها وطحنها، وتحويلها إلى فتات أو طعاما لذيذا على موائد المفترسين الفتاكين، المحتشدين حول موائد التسول والتبعية والمذلة والخنوع، التي تدر عليهم أموالا طائلة وتغمرهم بالمنهوبات والمسلوبات، وتبرره لهم بقوانين وفتاوى شرعية، وما تأوله من الكتب وتضعه من أحاديث تنسبها لهذا وذاك، وتمتهنهم بقبضة "قال" و"ذكر"، وما إلى غير ذلك من أساليب التخنيع والترويع والاستعباد المبيد.
ويبدو الطحن على أشده في المجتمعات التي تبضعت وتشرذمت وتطيّفت وتمذهبت، وتحزبت وتفسدت وتراجمت وتكفّرت وتديّنت أو تظاهرت بدين، وما دينها إلا من وحي نفس أمارة بسوء مشين. والذين يتناحرون يتفتتون ويُطحنون ويُخبزون ويصبون في قوالب مرغوبة، ويتحولون إلى أهداف مطلوبة ذات قدرة على السقوط في شباك الصيادين، والتزحلق على سفوح الوعيد والإقامة في مستنقعات الأنين. وما دام التشرذم ديدن فالطحن أهون، والحصول على العجينة المطلوبة يكون أسهل وأمهر، وبهذا يصنع الخباز ما يريد أكله من الخبز والمعجنات التي يفضلها، ما دامت الموجودات تنهمر على الطاحونة، وتستحيل إلى طحين متجانس ودقيق خانس.
وعليه فإن الطواحين ستبقى تدور لأنها تنتج خبزا لذيذا، وتوفر طحينا جيدا يساهم في إرضاء الرغبات، وإشباع الجياع الذين يأكلون بملاعق من ذهب، وأوعية طعامهم جماجم الرعاع المغفلين التابعين لطاحونة أفاكٍ مراءٍ قمين!!
واقرأ أيضاً:
المجتمعات والركائز المُقتدرات!! / أصوات الحناجر وصمت العقول؟!! / الديمقراطية والديماغوجية!! / تسييس العواطف والانفعالات!!