السلوكيات الفاعلة في واقع العرب والمسلمين تؤكد أن الاعتقاد حالة تسبق الاستدلال على صحتها، وبهذا يقوم المُعتَقِد باستحضار ما يعزز ويسوغ ما يراه ويعتقده، وفي هذا انحراف إدراكي ومعرفي خطير. وفي واقع يكنز موسوعات تراثية هائلة وإضافات فكرية وثقافية وتأويلية متراكمة، يكون من السهل على أي صاحب رؤية ومنهج ومعتقد أن يستحضر ما يساند رؤيته وتأويله وتصوره، وبهذا تضيع الحقيقة العلمية وينتفي البرهان العقلي، لأن العرب والمسلمين يجلسون على كم تراثي هائل يمكنهم أن ينتقوا منه ما يناسب نظرتهم ورؤيتهم، مما يتسبب بالعديد من الصراعات والتداعيات، خصوصا في زمن توفرت فيه أدوات سفك الدماء والقتل السهل المبيد.
فالمحتدم التراثي العربي وما أنتجه المسلمون من معارف وعلوم، يجعل الركون إلى وجهة نظر أو موقف ما محاطا بالكثير من الشواهد والأدلة والبراهين الكفيلة بتسويغه، والعمل بموجبه مهما كان منحرفا أو معتدلا أو متطرفا، فلكل وجهة نظر ما يساندها ويعززها ويسوغها، وحتى في القرآن الكريم هناك الكثير مما يسوغ بالتأويل لكل شيء، ولهذا قيل "القرآن حمَّال الأوجه".
أي أنك يمكنك أن تعزز وجهة نظرك بما تؤوّله من القرآن، أو تجده في أساطير السابقين الذين أوّلوا وفقا لمصالح وإرادات الكراسي والقوة المهيمنة على المكان والزمان. وهذه معضلة حضارية وخيمة تتسبب بالتداعيات والتفاعلات السلبية الخانقة الكقيلة باعتقال الأجيال في صناديق الظلام والضلال والبهتان. ولكي يتحقق الخروج من كهوفها وحفرها، والتحرر من مخالبها المنشوبة في الوعي الجمعي، يجب التفاعل مع الحاضر بمفرداته وعناصره اللازمة لصناعة الأفضل، ولا يكون ذلك إلا بالإيمان بالعلم والعمل وتحرير العقل من آفات الذي كان وإخطبوطات قال.
"...فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله..." 3:7
واقرأ أيضاً:
أصوات الحناجر وصمت العقول؟!! / الديمقراطية والديماغوجية!! / تسييس العواطف والانفعالات!! / طواحين الذات المنكوبة!!