لماذا يعشق الناس الكرة، ويعشقون محمد صلاح ؟1
لماذا يعشق الناس محمد صلاح ؟ ...
كثيرا ما تعلقت القلوب بنجوم الكرة الموهوبين على مر السنين، ولكننا في السنوات الأخيرة أمام ظاهرة استثنائية هي محمد صلاح لاعب الكرة المصري الأسطوري الذي انتقل من لعب الكرة الشراب في حواري قرية نجريج مركز بسيون محافظة الغربية إلى قمة الأندية الأوروبية وتحول إلى بطل قومي تتجمع حوله قلوب المصريين وتملأ صوره الشوارع والميادين والطرق وشاشات التليفزيون. حين ترى وجه محمد صلاح لا تستطيع الالتفات عنه بسهولة فستأسرك ملامحه وشعر رأسه ولحيته الذين اكتسبوا مع وجهه جمال الشواش، وتشعر أنك أمام وجه مختلف عن كثيرين ممن تراهم كل يوم على الرغم من أنه بلحيته الكثة وشعره المنكوش (بعناية) يشبه الكثيرين من شباب مصر الذين تراهم كل يوم في الشوارع، وأول وأقوى ما يشدك إليه نظرة عينيه اليقظة والمنتبهة والطموحة والجادة والمصممة والطيبة في ذات الوقت مع ابتسامته الهادئة المطمئنة التي تشع نورا أسطوريا في وجهه الريفي البسيط، والذي يبدو وكأنه فرغ لتوه من الوضوء وصلاة الفجر. وعلى الرغم من التزامه وانضباطه وجديته إلا أنه لم يحرم نفسه من إطلاق شعر رأسه وشعر لحيته في مظهر شبابي عصري أقرب للروشنة والتحرر، وكأنه يوازن بين جوهره ومظهره، أو بين الظل والقناع، أو بين الأصالة والمعاصرة، وكأنه في حالة تصالح مع ذاته ومع سائر مكوناته النفسية ، وينعكس كل هذا في ملامح وجهه المليئة بالرضى والطمأنينة والسلام ، وفي ابتسامته المضيئة التي تملأ وجهه السعيد المطمئن.
النقلة الهائلة من اللعب بالكرة الشراب في شوارع وحواري قرية نجريج الزراعية الصغيرة في دلتا مصر إلى نادي ليفربول وملاعب أوروبا والدوري الممتاز حيث عباقرة وأساطير الكرة العالمية، تلك النقلة حدثت في زمن قصير نسبيا ، ويبدو أن صاحبها محمد صلاح كان يتحلى بمجموعة جوانب نفسية وعبقريات شخصية ومهنية وأخلاقية أهّلته لأن يعبر الكثير من الحواجز والعقبات بثبات ملفت للنظر وبسرعة لا يكاد يتوقعها أحد وباستقرار نفسي ومهني وأخلاقي في ظروف بطبيعتها مزلزلة لأي تكوين نفسي عادي أو حتى متميز.
والموهبة وحدها لا تصنع النجاح مهما كانت قوتها، إذ لابد من ذكاء عقلي ووجداني واجتماعي لإدارة الموهبة والحفاظ على استمرارها وتوهجها، وهذا ما يتبدى في حالة محمد صلاح، إذ يجمع بين الموهبة وبين ذكاء حاد (يطل من عينيه بوضوح) يرعى هذه الموهبة ويمهد لها الطريق ويذلل أمامها المصاعب ويحميها من التناثر أو الاحتراق. محمد صلاح الذي ولد عام 1992م في أسرة فقيرة لم تستطع تحقيق حلمه في التعليم الجامعي ويضطر للالتحاق بمعهد اللاسلكي يصبح بعد سنوات أسطورة الكرة العالمية محققا الإنجازات التالية على سبيل المثال لا الحصر (وما زالت الإنجازات متدفقة حتى وقته وتاريخه): حاز جائزة أفضل لاعب إفريقي صاعد لعام 2012، ثم جائزة لاعب الموسم في نادي روما 2015/2016، وكان أول لاعب مصري يفوز بجائزة أفضل لاعب في الشهر خلال منافسات الدوري الإنكليزي، ثم اختير ضمن التشكيلة المثالية لبطولة الأمم الأفريقية عام 2017، وحاز جائزة BBC لأفضل لاعب أفريقي عام 2017.
إذن ما هو السر وراء هذا الصعود المضطرد والسريع لهذا الشاب الريفي البسيط ؟
تبدو الاستقامة أحد عوامل النجاح المهمة عند محمد صلاح فحياته تتسم بالانضباط الشديد والالتزام المهني والأخلاقي والشخصي، فعلى الرغم من نجاحاته المبهرة وعبقريته الكروية العظيمة وشهرته ونجوميته وكاريزمته، إلا أنه لم ينجرف مع ما انجرف فيه من هم في مثل هذه الظروف أو حتى أقل بكثير، فلديه حالة ثبات عجيبة أمام إغراءات وإغواءات الشهرة والنجومية، ولديه موقف متواضع في كبرياء تتحدى كل إغراءات الغرور وانتفاخ الذات، وهذه عبقرية أخرى تضاف إلى عبقريته الكروية.
ويشير عمدة قريته إلى هذا البعد المهم في شخصية صلاح بقوله: إن صلاح ورغم احترافه في أكثر من نادٍ أوروبي ما زال يصر على قضاء إجازته السنوية في مسقط رأسه، ولا يتأخر عن مشاركه أبناء القرية في أفراحهم وأحزانهم، ودائماً يحرص على قضاء العيد وسط أسرته وأصدقائه، فضلاً عن قيامه بأعمال الخير في القرية، مضيفاً أن صلاح ومنذ عهدناه طفلاً لم نشاهده إلا مواظباً على الصلاة وقراءة القرآن والمشاركة في المناسبات الاجتماعية التي تخص أبناء قريته، كما لم نشاهده يوماً ما متورطاً في مشاجرة أو متلفظاً بلفظ غير لائق، فلم نر منه إلا كل خير وكل جميل .
ومحمد صلاح يتمتع بمجموعة عبقريات على مستويات نفسية متعددة نذكر منها :
• عبقريته الأخلاقية، وتتبدى في قدرته على الاحتفاظ بتوازنه أمام بريق وإغواءات الشهرة والنجاح، وقدرته على الثبات والتوجه مباشرة نحو أهدافه في تحقيق أعلى مستوى من الأداء يتجاوز به كل المستويات المعروفة محليا وعالميا، ويجعل النجوم العالميين يتراجعون وراءه واحدا بعد الآخر، وهو منطلق كالصاروخ نحو هدف لا يعرفه أو يتوقعه أحد، فيبدو أن سقف طموحه أعلى بكثير مما يتوقعه الناس. وعلى الرغم من كثرة معجبيه وكثرة أسفاره وتحركاته وصوره، لم تلتقط له أي صورة في وضع غير مناسب، وغالبية صوره تراها في الملاعب مع الكرة، أو يداعب ابنته "مكة"، أو يتزلج على الجليد، أو يزور الأهرامات، أو أمام برج إيفل، أو أمام المسجد الأقصى في القدس، أو يصطاد سمك، أو يسبح في الماء وحيدا، أو مع أطفال قريته.
• عبقرية الوقت لديه، وتظهر في انطلاقته السريعة جدا من طفل يلعب الكرة في قريته الصغيرة، ثم ينتقل إلى نادي المقاولون العرب، ثم يدق على أبواب أندية الدرجة الأولى مثل نادي الزمالك، وحين لم يوفق في الالتحاق به، تطلعت عيناه الصاحيتين المفتوحتين عن آخرهما إلى الآفاق العالمية والاحتراف الدولي، وحين يصل إليه لم يركن إلى مكانته في ناد واحد، وإنما ينتقل وبسرعة من ناد إلى ناد أفضل، وانتقالاته ليست اندفاعات متهورة، أو تقلبات انفعالية، أو خلافات مع الإدارة، أو قفزات في الفراغ، أو عقوبات فنية أو إدارية، وإنما نقلات محسوبة ومتوجهة نحو المعالي والتميز ثم التميز الأعلى بلا نهاية، فهو لا يضيع لحظة دون عمل وإنجاز على طريق يرى بداياته ونهاياته بوضوح شديد، ولا يلتفت يمينا أو يسارا إلى شيء يعطله ولو لحظة عن تحقيق هدفه. ولا يتخيل أحد كيف كان محمد صلاح وهو طالب صغير يخرج من مدرسته كل يوم في العاشرة صباحا بإذن خاص من إدارة المدرسة لكي يسافر على أربعة مراحل من قريته إلى نادي المقاولون العرب ليتدرب هناك حيث يقطع المسافة فيما لا يقل عن ثلاث ساعات ذهابا ومثلهم إيابا، ويكرر ذلك لسنوات بإصرار عجيب مع ما يمثله ذلك من إرهاق شديد وحرمانه وهو ما يزال طفلا مما يتمتع به أمثاله من اللهو واللعب أو حتى الراحة والاسترخاء.
• عبقريته الأسرية، وتتبدى في استقراره الأسري من حيث انتمائه لأسرة مصرية ريفية بسيطة واعتزازه بذلك الانتماء والارتباط القوي بأسرته وقريته ووطنه، وارتباطه بزوجته وابنته على الرغم من دوائره العالمية التي تتسع يوما بعد يوم ومعجبيه ومعجباته الذين يملأون الدنيا ويتشوقون إلى نظرة منه، وهذا الاستقرار الأسري ربما يحميه من انزلاقات كثيرة يقع فيها من هم في مثل ظروفه ويكلفهم ذلك تضييع الكثير من طاقاتهم ووقتهم وتميزهم. ومن المعتاد في الأسر المصرية التقليدية أن تقف أمام انشغال أبنائها بلعب الكرة وتعتبر ذلك تضييع لوقتهم وانشغال عن دراستهم التي يعتبرونها أهم من ممارسة أي رياضة، ولكن هذا لم يكن موجودا في أسرة محمد صلاح إذ كان والده يشجعه على تحقيق حلمه، على الرغم من أن هذا الحلم لم يكن واضحا في ذلك الوقت. وقد حرص صلاح على أن يصطحب والديه وإخوته إلى أوروبا، وأن ينزل من أوروبا عام 2013م زاهدا في فتياتها ليتزوج فتاة محلية من القرية هي صديقة طفولته ماجي محمد وينجب منها ابنة سمّاها "مكة" (ذلك الاسم الذي يعكس الخلفية الدينية لدى صلاح وزوجته)، ليشكل هذا الكيان الأسري قاعدة انطلاق ثابتة وراسخة، ولكي تحميه هذه الدائرة الأسرية من مغريات وغوايات الحياة في أوروبا خاصة لمن هم في مثل شهرته. ومن حسن حظه أنه نشأ في أسرة كروية فوالده كان لاعبا مميزا وعمه وخاله كذلك، وكان الثلاثة يلعبون في فريق القرية، ويتمتعون بمهارات عالية، وتربى محمد صلاح وسط عائلة تعشق وتقدر كرة القدم، ولاحظ والده موهبته منذ البداية فشجعه وتعب معه كثيرا، وكان يتحمل عناء اصطحابه وهو طفل من نجريج في محافظة الغربية إلى القاهرة حيث نادي المقاولون العرب، وظل يدعمه حتى وصل إلى العالمية، وكأن القدر ساق محمد صلاح ليحقق طموحات أسرته الكروية.
ويذكر أن الطفل محمد كان تبدو عليه ومنذ الصغر الموهبة الكبيرة، فقد كان يغازل الكرة "بطريقة مارادونية"، وتنبأ له الجميع بمستقبل باهر، وعقب وصوله لسن السابعة ألحقه والده بأندية المحلة وبلدية المحلة التي تبعد عن مركز بسيون بحوالي 30 كيلومتراً، وبسبب المسافة الكبيرة، والإرهاق الشديد الذي كان يعانيه الطفل الصغير نتيجة السفر يومياً للتدريب، قام والده بنقله لنادي بسيون القريب من القرية.
وقد كان انتقال محمد صلاح لفريق المقاولون صدفة عجيبة فقد كان أحد الكشافين للمواهب الصغيرة ويدعى رضا الملاح قادماً للقرية لمشاهدة لاعب اسمه شريف لضمه لنادي عثماسون التابع لشركة المقاولون العرب، وفور وصوله لمركز شباب القرية لمشاهدة شريف طلب منه أن يشارك زملاءه الصغار في تقسيمة كروية لرؤيته على الطبيعة، وكان من بين هؤلاء الأطفال الصغار محمد صلاح، وبدأت التقسيمة وانبهر الكابتن رضا الملاح بمحمد صلاح وناداه وطلب منه مقابلة والده، حيث اتفق معه على ضم ابنه لنادي عثماسون.
وكان محمد صلاح –رغم صغر سنه- يسافر وحده يومياً للقاهرة للتدريب، وكان والده ينتظره أمام محطة القطار بالساعات في البرد القارس والحر القائظ، وخلال سنوات من التعب والجهد والمشقة بزغ نجم محمد صلاح، وبدأ يخطو خطواته الأولى نحو التألق والنجومية. ويحكي عنه أهل قريته أنه ارتبط بقصة حب مع زميلته في المدرسة الإعدادية، وهي من أبناء القرية أيضاً، وبادلته الحب، ولكن لم يسمع أحد بهذه القصة، فلم يلتقيا ولو مرة واحدة، بحكم العادات والتقاليد، ولكن كان حبهما صامتاً، وعقب احترافه في نادي بازل السويسري استغل صلاح أول إجازة يحصل عليها من ناديه الجديد، وتقدم لوالدها بعد سنوات طويلة من الحب الصامت الراقي والنظيف، وتمت خطبتهما وزواجهما في حفل بهيج، وأصر صلاح على إقامته في القرية ومشاركه أهالي قريته لفرحته.
ويتبع>>>>> : لماذا يعشق الناس الكرة، ويعشقون محمد صلاح ؟3
واقرأ أيضًا:
العشرة أم الحب / على باب الله: كلام في الحب مشاركة / ما هو المستحيل في الحب المستحيل? / الحب بعد الخمسين ... قفزة في فراغ الزمن المتبقي
التعليق: أععتقد أن انبهار الدكتور سيزول .وسيحتاج هو إلى تجاوز مراحل الصدمة . بعد رؤية محمد صلاح في جزر المالديف. بشكل مخزي حقيقة