يكثر التساؤل من زوارنا الكرام وغيرهم من أفراد المجتمع عن الحدود الفاصلة بين تخصصات الطب النفسي وطب المخ والأعصاب وجراحة المخ والأعصاب، وعن التخصص السليم الذي ينبغي أن يلجأ إليه المريض في الحالات المرضية المرتبطة بالجهاز العصبي. وللإجابة عن هذا التساؤل يجب أن نفهم أولا أن الدراسة بكلية الطب تنقسم إلى قسمين رئيسيين، وهما الطب والجراحة، حتى إن الاسم الرسمي لشهادة البكالوريوس التي يحصل عليها الطالب هو بكالوريوس الطب والجراحة، والطب هنا هو العلاج بالدواء والعقاقير، وأحيانا يطلق عليه الأمراض الباطنة (فكلمة باطنة معناها العلاج الخفي بالعقاقير في جميع أجزاء الجسد وليست قاصرة على أمراض البطن)، أما الجراحة فهي العلاج بالمشرط، ويلحق بها تخصص التخدير لضرورته لها.
ثم إن التخصصات والفروع الطبية تتحدد بعد ذلك على حسب أجهزة الجسم المختلفة التي تتعامل معها، وهكذا فإننا سنجد لكل جهاز من أجهزة الجسم تخصصا طبيا أو باطنيا وتخصصا جراحيا، وقد يتم الجمع أحيانا بين تخصصين في تخصص واحد، فهناك مثلا تخصصان طبيان (أو باطنيان) هما تخصص القلب وتخصص الأمراض الصدرية يقابلهما تخصص جراحي واحد هو جراحة القلب والصدر. وأحيانا يضم التخصص الباطني للتخصص الجراحي المقابل له مثل تخصص طب وجراحة العيون، والأنف والأذن والحنجرة، والنساء والتوليد.
أما بالنسبة للجهاز العصبي فإن التخصص الطبي الباطني الذي يتعامل معه يسمى تخصص الأمراض النفسية والعصبية، ويقابله تخصص جراحة المخ والأعصاب، وبالتالي فإن على المريض أن يلجأ لتخصص جراحة المخ والأعصاب إذا كان يحتاج إلى جراحة أو يعاني من مشكلة مرضية تعالج غالبا بالجراحة، أم الشكاوى المتعلقة بالجهاز العصبي ولا تحتاج إلى جراحة فيعالجها أخصائي الأمراض النفسية والعصبية.
ثم إن تخصص الأمراض النفسية والعصبية يتفرع منه تخصصان كبيران، أحدهما يسمى بالطب النفسي، ويتعامل مع مشاكل الجهاز العصبي المتعلقة بالناحية المعرفية (الانتباه والتركيز والذاكرة والتفكير والإدراك ... الخ) وتلك المتعلقة بالناحية الوجدانية (القلق والاكتئاب والغضب المفرط ... الخ) والناحية السلوكية. والتخصص الآخر يسمى بالأمراض العصبية أو طب المخ والأعصاب، وهو الذي يتعامل مع الخلل بالوظائف الحركية والحسية للجهاز العصبي (كجلطات المخ ونزيف المخ والشلل الرعاش والتهاب الأعصاب الطرفية والصرع ... الخ).
ويشترط النظام التعليمي المصري على الطبيب الدارس بالدراسات العليا أن يحصل على الماجستير في الأمراض النفسية والعصبية، أي أن عليه أن يدرس التخصصيين الفرعيين السالف ذكرهما بنفس القدر وأن يوزع جهده بينهما خلال مرحلة التخصص الأولى ليصبح أخصائيا في الأمراض النفسية والعصبية، وذلك لارتباط التخصصين وتعاملهما مع جهاز واحد من أجهزة الجسم وهو الجهاز العصبي، وقد يكتفي بعض الأطباء بهذه المرحلة ويعمل أخصائيا للأمراض النفسية والعصبية أو أخصائيا للطب النفسي وأمراض المخ والأعصاب، إلا أن النظام التعليمي المذكور يعطيه أيضا الحق في المفاضلة والاختيار بين التخصصين الفرعيين ليحصل على درجة الدكتوراه في الطب النفسي أو في أمراض المخ والأعصاب، وفي هذه المرحلة لا يعطي النظام للدارس الحق في الجمع بين التخصصين – عكس مرحلة الماجستير – أي أنه لا توجد درجة دكتوراه في الأمراض النفسية والعصبية، بل توجد درجة دكتوراه في الطب النفسي ودرجة أخرى لطب المخ والأعصاب (أو الأمراض العصبية)، وذلك لتتاح الفرصة للدارس للتوسع في كل جديد من العلم في هذا التخصص الدقيق ليحصل على درجة (استشاري) في هذا التخصص الفرعي فقط.
ثم إن الجامعات العالمية – خارج مصر – قد بدأت منذ سنوات في إنشاء تخصصات فرعية دقيقة داخل تخصص الطب النفسي (كما في غيره من التخصصات)، ومن هذه التخصصات الطب النفسي عند الأطفال والمراهقين، والذي يتعامل مع المشاكل المعرفية والوجدانية والسلوكية في هذه المرحلة الهامة التي تشهد نمو وتطور الجهاز العصبي (منذ الميلاد وحتى سن 18 عاما)، ومن هذه التخصصات الدقيقة في مجال الطب النفسي أيضا تخصص علاج الإدمان، والطب النفسي الشيخوخي (والذي يتعامل مع الاضطرابات النفسية في مرحلة الشيخوخة)، والطب النفسي الشرعي (والذي يعنى بتحديد مسؤولية المريض في ارتكاب الجرائم المختلفة من عدمه وغير ذلك من الأمور المتعلقة بالنظام القضائي)
والجدير بالذكر أن هذه التخصصات الدقيقة الأخيرة لم تحدد لها درجات أو شهادات علمية في الجامعات المصرية بعد، ولكن يمكن لبعض الدارسين أن يحصلوا على الزمالة التدريبية في هذه التخصصات عن طريق السفر إلى الخارج وحضور البرنامج التدريبي الخاص بها في إحدى الجامعات العالمية سواء أكان هذا من خلال نظام البعثات العلمية المعمول به في الجامعات المصرية أو من خلال منح دراسية من الجامعة الأجنبية ذاتها أو غير ذلك من الأساليب. كما يذكر أن التخصصات الدقيقة المذكورة لا يمكن دراستها إلا بعد المرور بالمراحل السابقة لها، فلابد للطبيب مثلا أن يحصل على درجة أخصائي الأمراض العصبية والنفسية ثم درجة استشاري الطب النفسي ليحصل بعد ذلك على درجة استشاري الطب النفسي عند الأطفال والمراهقين. وقد تفضلت نقابة الأطباء المصرية حديثا بفتح سجل للاستشاريين بتخصص الطب النفسي عند الأطفال والمراهقين، كما تم إنشاء الجمعية المصرية للطب النفسي عند الأطفال والمراهقين.
ومن المفيد أيضا أن نذكر هنا أن بعض الزملاء الأعزاء بتخصص طب الأطفال (وهو التخصص الباطني الذي يتعامل مع المشاكل المرضية بكافة أجهزة الجسم في مرحلة الطفولة تحت 15 عاما) مهتمون باضطرابات الجهاز العصبي عند الأطفال، وهناك وحدات للأمراض العصبية عند الأطفال بالكثير من أقسام طب الأطفال.
نأسف لطول المقال، ونرجو أن نكون قد نجحنا في إلقاء الضوء وإزالة اللبس في هذا الأمر، ومساعدة المريض على اختيار طبيبه والاتجاه إلى التخصص الصحيح بالنسبة لشكواه، مع تمنياتنا للجميع بالشفاء العاجل
واقرأ أيضاً:
عن المناعة النفسية .. وتحمل الإحباط / الاضطرابات النفسية: ظواهر مرضية أم أعراض شيطانية؟؟ / مصطلحات نفسية Psychiatric Terms