البشر له الخيار في أن يكون رقما أو إنسانا، ولا يلومن إلا نفسه ومجتمعه ومَن معه، فالتحول إلى رقم إرادة فردية وجماعية وكذلك التحول إلى إنسان. ومن أمثلة التحول إلى أرقام أن يكون البشر رهينة لهذا وذاك من الرموز والمسميات والتصورات، فتجده مرهونا بعمامة ولحية وكرسي وفئة وغيرها من التوصيفات الاستعبادية، التي تجعل البشر رقما على يسار المتحكمين بمصيره، والذين يمحقونه أنى يشاؤون ويجمعونه ويطرحونه ويقسمونه ويضربونه، وفقا لمقتضيات مصالحهم ونوازع نفوسهم وما تكنزه من مطمورات دونية.
فالبشر الذي يتحرك كالروبوت لكلمة عمامة أو رأي مدّعٍ بدين عليه أن يقر بمسؤوليته عن قهره وظلمه، لأنه قد طلّق ذاته بالثلاث وباع نفسه لممتهنيه وقاهريه والمتاجرين به. ومن سلوك البشر الأرقام الارتضاء بحياة ذليلة مهينة قاسية، وفقا لما يضخه في وعيه المرهون بهم من أكاذيب وخداعات وأضاليل ووعود بأمنيات لا تتحقق إلا في الموت، وما من أحد يدري بها ويعلم.
فالذين يرتضون العيش محرومين من الماء والكهرباء وأبسط الحاجات، ومقبوض على مصيرهم ببطاقة تموينية يُسرق نصف ما فيها ويتواصلون ويعينون المارقين والفاسدين، ما هم إلا أرقام وتوابع لعمائم وأشخاص يمررون مصالح الآخرين، وما تساءل الواحد منهم كيف يعيش هؤلاء الذين يرتهنون بهم، هل يعرفون معنى الحرمان من الكهرباء في شهر تموز وآب، وهل يعرفون معنى الحاجات؟!
إنهم مترفون متخومون ومترفهون والأرقام من حولهم تتراكض وتصفق لهم وتقدسهم وربما تعبدهم، وتحسب قولهم أمرا وواجبا، فما تقوله هذه اللحية وتلك العمامة يحسب على أنه كلام يستوجب التنفيذ، وأنه لأمر مقدس يوصل الأرقام إلى جنات الخلد والنعيم، التي يصورونها لهم على أنها الهدف والغاية، وما الحياة الدنيا إلا عبث وامتحان ونقمة وعذاب، وعليهم أن يتعذبوا ويُقهروا لكي ينالوا نعيم الآخرة، وهم أي الذين يستعبدونهم لهم جنات الدنيا والآخرة!!
وعندما نتأمل هذه الصور السلوكية التفاعلية ما بين البشر تتضح حقيقة الوجود الرقمي للناس وإغفالهم لدورهم الإنساني، الذي يوجب عليهم أن يتحقق التفاعل فيما بينهم على أنهم موجودات ذات قيمة كبيرة ودور مهم في صناعة الحياة، وأن العبودية لا تكون إلا لخالقهم العظيم، وأن الجميع سواسية في الحقوق والواجبات، ولا يجوز لأحد أن يعلو على أحد إلا بالجد والاجتهاد والعطاء الإنساني النبيل.
وتجد أمثلة كثيرة على البشر الإنسان في المجتمعات المعاصرة، التي ينال فيها الناس حقوقهم ويعبرون عن تطلعاتهم، ويمنحون الحياة خلاصة ما عندهم من القدرات والطاقات والإبداعات الأصيلة. كنت بزيارة لفلاح سويسري في مزرعته، وتشعب الحديث بيننا، وعندما سألته عن وجود الدبية ومخاطرها من حوله، قال أنها نادرة وكان قبل أعوام دب اسمه كذا، وعندما قتلته الشرطة حصلت ضجة كبيرة واستياء لقتل الحيوان، وأضاف، عندها أدركت السلطات المحلية أن منح الدب اسما يتسبب بإثارة المشاعر، ولهذا تقرر منح أي دب يأتي للمنطقة رقما لأن قتل الرقم لا يثير مشاعر الناس!! تأملت قوله وتداعت أمامي أرقام القتلى يوميا من العرب، التي تتداولها وسائل الإعلام فلا تثير مشاعر المستمعين والمشاهدين، لأنها أرقام مهما زادت أو نقصت فإنها تبقى أرقاما!!
إن تحول البشر إلى إنسان يتطلب اعتزازا بالكرامة وتمسكا بالحقوق والواجيات، والشعور بالمسؤولية والوعي والمعرفة وعدم الخنوع والتبعية والاستسلام لذوي العاهات السلوكية، الذين يزينونها بالدين والعقيدة وغيرها من الخداعات والأضاليل السلوكية. تحوُّل البشر من رقم إلى إنسان يعني الحرية الكاملة فيما يراه ويعتقده ويتصوره، وأن يحترم غيره ويتفاعل معه بآليات إيجابية تساهم في تنمية الخير والمحبة والقوة والاقتدار التفاعلي والإبداعي.
تحوُّلات البشر من رقم إلى إنسان نراها واضحة في مجتمعات الدنيا المتقدمة، لوجود القوانين التي تصون حقوقه وواجباته وحمايته، ولديه الحق الكامل في المشاركة بتقرير مصيره ولعب دوره في بناء الحياة الحرة الكريمة، بعيدا عن أي ضغط أو تأثير، وفي جميعها لا يمكن للبشر أن يكون مرهونا بشخص مدّعٍ بدين أو يرى أنه يمثل دين.
ويبقى حق الاختيار وتقرير المصير إرادة ذاتية وفردية وجماعية.
فلا تلومن الآخرين لامتلاكهم لك، ما دمت قد ارتضيت أن تبيع نفسك وتكون رقما تحت رحمة الفاسدين!!
فهل للبشر أن يرتقي إلى مصاف إنسانيته؟!!
واقرأ أيضاً:
الدينية والوطنية!! / الأذكياء يبعثون أوطانهم والأغبياء يمحقونها!! / الحب الديمقراطي!! / العرب أمهر الخياطين!! / المُطالبة والمُغالبة!!