الوحدة العربية قائمة في دنيا العرب منذ أن وُجد العرب، أي أنها موجودة، لكن العقل العربي ينكرها ويتوهم سواها، ولهذا أمضت الأجيال مسيراتها تطارد سراب الهذيانات والتخريفات التي تسمى فكرية، وبموجبها أو على ضوئها تأسست الأحزاب الوحدوية والقومية، وما شاكلها من اضطرابات سلوكية عصفت بالواقع العربي على مدى القرن العشرين ولا تزال.
وقد أتعبت أسماعنا نداءات "توحيد الأمة"، توحيد العرب "توحيد المسلمين"، وانتهينا إلى نداءات "توحيد المواطنين"، "توحيد الشعب"، بل إلى توحيد طائفي وعنصري وشيفوني مهين.
فالوحدة قائمة وفاعلة فينا، والدعوة إلى الوحدة في كيان الوحدة يعني النقيض، أي الفرقة والشقاق والتفتت والصراع المستديم، وهذا ما أنجزته الدعوات الوحدوية التي وصلت إلى عكس ما تدّعي، أو أنها في حقيقة أمرها انتهت إلى جوهر وفحوى دعواها.
فالدعوات الوحدوية العربية والإسلامية، مثل دعوة الإنسان الفرد إلى أن يكون واحدا، فيدخل في متاهات الوهم والتخريف فيحسب الوحدة بتدمير نفسه وتبضيع كيانه، فيرى أن قلبه ضد رأيه وعيناه ضد أذنيه ويداه ضد رجليه، وهكذا حتى ينتهي به الأمر إلى أن يكون معوقا ومقعدا، لأنه يبحث عن وحدة في وحدة قائمة متكاملة فاعلة في تكوين قوته والتعبير عن حياته.
وفي حقيقة الدعوات الوحدوية أنها لم تفشل، بل نجحت تماما في تحقيق أهدافها، لأن القول بالعمل على الوحدة في كيان واحد يعني تدمير ذلك الكيان، وهذا ما حصل حقا في الواقع العربي والإسلامي. فالعرب أمة واحدة شئنا أم أبينا، ولديهم كافة مقومات الوحدة الكينونية المتكاملة المتنامية فيهم منذ قرون وقرون، فالوحدة العربية ليست خيارا وإنما واقعا ملموسا وحيويا وكائنا متفاعلا مع الآخرين، فهكذا ترى الأمم الأخرى العرب، وهم لا يرون أنفسهم كذلك للغشاوات الفكرية والنفسية والعاطفية العاصفة في أروقة وجودهم، فتصيبهم بالعمى الحضاري والأمية التفاعلية.
فالانحراف العربي تجسد في فهمهم أو إدراكهم لمعنى الوحدة بتكوين دولة واحدة تضمهم، وهذا خطأ بل خطيئة إدراكية ووعيوية وخيمة وخطيرة، أنجبت متوالية من المصائب والتداعيات المروعة في ديارهم، فهذا التصور خارج عن طبائع الأشياء وقوانين القوة والاقتدار، فالأمة الواحدة بدولها المختلفة تكون أقوى وأعز من كونها في دولة واحدة، وذلك لأن التعدد يمنحها حضورا دوليا أكبر، ويساهم في تنويع الطاقات والقدرات، ويؤدي إلى تكامل حضاري متميز وعظيم.
والعلة تكمن في أن الذين يسمون أنفسهم ساسة ومفكرين قد انزلقوا نحو هاوية الوهم والسراب، وأفنوا حياتهم يطاردون خيط دخان، ولا يبصرون الوحدة الفاعلة ويلهثون وراء وحدة متصورة، لا رصيد لها من المنطق والواقع، ولهذا لم يتحقق إلا ما يناهض تصوراتهم وهذيناتهم العروبية والقومية، لأنهم ينكرون ما هو قائم وحاصل وفاعل، ويريدون أن يقيموا ما لا يمكن أن يكون ويتحقق، فهم الغاطسون في الأوهام والعرب يمارسون وحدتهم وكونهم أمة واحدة، ولن تنفع الأوهام إلا أصحاب الكراسي الذين يتاجرون بها ليقبضوا على مصير الإنسان.
فتحرروا من أوهامكم وفكروا بعقل معاصر منير!!
واقرأ أيضاً:
خليج أو حليج؟!! / التدوين الآثم!! / التراجعية!! / الأجنبي ربما يعرف القرآن أكثر من المسلم!! / تعاونوا مع حكوماتكم يا عرب!! / اضطراب الاستهتار بالقوة!!