هل نحن في آخر الزمان، إذ انقلبت أحوالنا وتبدلت عاداتنا، وبليت تقاليدنا، وتردت مفاهيمنا، وفقدنا قيمنا، وتخلينا عن أخلاقنا، وبتنا غرباء عن بعضنا، لا روابط بيننا، ولا أواصر تجمعنا، ولا دين يوحدنا، ولا وطن يضمنا، ولا أمة تشملنا، نعادي بعضنا ونكره أنفسنا، ونتآمر مع العدو على بني جلدتنا، وننقلب بسهولةٍ على إخواننا وأشقائنا، إذ نصدق العدو ونسالمه، ونؤيده ونصالحه، ونركن إليه ونتحالف معه، ونقف إلى جانبه ونسانده، فنحزن إن أصابه مكروه، ونهتم إن نزلت به مصيبة، وندعو له لينجو منها ويتجاوزها، ونفرح له إن انتصر علينا وننال من أهلنا، ونبرر له عدوانه علينا، ونجيز له ظلمه لنا، ونفسر عدوانه بأنه دفاعٌ عن النفس مشروعٌ، وحاجةٌ وطنيةٌ مطلوبةٌ، تلجأ إليها كل الأمم، وتعتمدها كل الدول.
هل نصدق أن من بيننا من يصادق العدو الصهيوني ويتحالف معه، ويؤيده ويسانده في عدوانه علينا، ومن يحزن لمصابه ويبكي لألمه، ومن يدعو له ويخاف عليه، ومن يدعو لنصرته ومساعدته، ويرفض الاعتداء عليه ويدين المس به، ومن يجاهر بتعاطفه مع المحتلين القتلة ووقوفه إلى جانبهم، ويؤمن بمظلوميتهم وحقهم المشروع في الدفاع عن أنفسهم وقتال الفلسطينيين لمنعهم من استعادة حقهم والعودة إلى بلادهم، ويصفونهم بــــ"القتلة المجرمين" و"الإرهابيين المعتدين".
جن جنون بعض المارقين من أمتنا، المنتسبين زوراً إلى بلادنا، من المقيمين معنا والمجاورين لنا، ممن يحملون أسماءنا وينطقون بلغتنا، ويدعون كذباً أنهم منا، يصلون صلاتنا ويستقبلون قبلتنا ويأكلون من ذبيحتنا، فأصابهم مسٌ من الخرف إثر عدوان الاحتلال الغادر على الشعب الفلسطيني، وكأنهم قد خافوا على العدو أن يهزم، فانطلقت ألسنتهم تلهج له بالدعاء، وأقلامهم تكتب عنه بالرجاء، وكأنه وليهم وسيدهم الذي يخافون عليه ويضحون من أجله.
فهذا عبد الحميد الحكيم الذي لا أظن أن في عروقه دماءً عربية تجري، يغرد أثناء الغارات الإسرائيلية على قطاع غزة، مخاطباً الإسرائيليين وداعياً لهم "نحن معكم بقلوبنا، لا نقبل أن تمتد الأيادي الملوثة بالإرهاب في غزة ضد الشعب الإسرائيلي"، ويضيف مبرراً لهم عدوانهم البغيض على أهل غزة فيقول "إسرائيل لها الحق بالرد على الإرهابيين بجميع الوسائل التي تحمي شعبها"، ويضيف "نحن معكم بقلوبنا ولا نقبل بإرهاب غزة ضد الشعب الإسرائيلي، فنحن وإياكم في خندقٍ واحدٍ".
وهذا المسمى أحمد بن سعد القرني يشمت في الفلسطينيين ويدعو عليهم، وكأنه لا يرى الجرائم الإسرائيلية في حقهم، ولا يأبه بالظلم الواقع عليهم، فيقول واصفاً عمليات العدو وغاراته العسكرية "دولة إسرائيل تقصف الإرهابيين بقطاع غزة، اللهم سدد رميهم على مواقع حماس الإرهابية". وتتوالى التعليقات المشينة والأمنيات الغريبة من بعض الكتاب العرب، الذين يوالون العدو ويناصرونه، ويؤيدونه ويحبونه، كالكاتب محمد آل الشيخ الذي يدعو إلى التطبيع مع العدو فيقول "انفتاح المملكة على إسرائيل والسماح بالتطبيع معها هو من أهم أسباب تدني معدلات الإرهاب".
أما الإعلامي دحام العنزي فيفتخر أنه في خندقٍ واحدٍ مع العدو ويقول "نحن والإسرائيليون في خندقٍ واحدٍ، وهم أقرب إلينا من الأتراك والفرس"، وينافسه الكاتب أحمد الفراج ويبزه بكلماتٍ أشد غرابةً مخاطباً رئيس حكومة العدو "لك العتبى يا نتنياهو حتى ترضى". قد لا أعيب كثيراً على هؤلاء المندسين الغرباء، الكتاب والصحافيين، وشيوخ السلاطين ومفتي الحكام، ومدعي الثقافة والمعرفة، ولو كانت أسماؤهم محمد وأحمد، ولكني أستنكر صوتاً فلسطينياً وأستغرب مواقفه، بل إنني أتهمه ولا أبرؤه، وأشك فيه ولا أصدقه، ولو كان ناطقاً باسم حركةٍ عظيمةٍ، ومتحدثٍ باسم فصيلٍ كبيرٍ نحترمه ونقدره، ونجله ونقدمه، ونعتز بدوره وتاريخه، ونضالاته وعطاءاته.
ولكن جمال نزال المتأنق اللباس والسام الخطاب، المتلاعب بالكلمات والعابث بالقيم والعادات، الناطق باسم حركة فتح وأحد المتحدثين باسمها، قد أساء إليها وإلى الشعب الفلسطيني كله، عندما استخف بمقاومة أهل غزة، واتهمها بالكذب والدجل، والاستعراض والتظاهر، واصفاً استهداف الحافلة الإسرائيلية بالمسرحية "عملية الباص مسرحية نفذها الاحتلال لإنقاذ حماس، ولم تكلفه أكثر من باصٍ فارغ"، وقد كان حرياً به ألا يجرفه كرهه لحركة حماس نحو ظلم شعبه وإنكار نضاله ومقاومته، والاستهزاء بآلامه وأماله، ولعله يعرف أنه يكذب بما يقول، ويفتري بما يصرح، ولا يعبر عن حركته عندما يتيه ويتبختر، إذ اعترف العدو بالعملية، وأقر بنوعيتها، ووقف عند نتيجتها، وأخذ العبر من صورتها، وخاف كثيراً من مثيلاتها.
يستغرب الإسرائيليون كثيراً مما يسمعون ويقرأون، وقد لا تصدق عيونهم ما ترى وآذانهم ما تسمع، وقد ينكر بعضهم ويستغرب، ويتهم ويشكك ولا يكاد يصدق، فهل أن الذين يناصرونهم ويؤيدونهم هم عربٌ ومسلمون، أتراهم ينطقون بلغة الضاد العظيمة، ويتمسكون بقيم العرب الأصيلة وشيمهم النبيلة، ويرثون عن الأجداد الشرف والمجد والأصالة، أليس لهم أقاربٌ قتلوا أو أحبةٌ أسروا، أما ذاقوا ويلات الحرب وشربوا من كأسها المنون، ألم يسمعوا عن الاجتياحات الإسرائيلية لبلادهم وتخريبهم لمدنهم وبلداتهم.
وهل يقرأون القرآن ويؤمنون به، ويعرفون أنه كلام الله المقدس وكتابه الكريم، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ألم يقرأوا سورة الإسراء ويعرفوا من القرآن سيرة بني إسرائيل، ويدركوا بنص الكتاب طباعهم، ويلمسوا نكرانهم ونكولهم، ونكوصهم وخذلانهم، وقتلهم الأنبياء وخيانتهم للعهود، ألا يحبون نبيهم ورسولهم محمد صلى الله عليه وسلم، الذي سممه اليهود وتآمروا عليه وحاولوا قتله، ألا يحبون قدسهم ويتطلعون إلى أقصاهم ومسرى رسولهم الذي ضاع منهم وأصبح غريباً عنهم، إذ هَودَه الاحتلال ودنسه جيشه، وهو يحاول هدمه وتدميره، وبناء هيكلهم المزعوم مكانه.
ذاك هو حال أمتنا العربية في هذه الأيام، حالٌ بئيسٌ مؤلمٌ، محزنٌ مبكي، لا يُسر صديقاً ولا يُفرح محباً، فيه من الجهل والانحطاط الكثير، وفيه من الخسة والنذالة أكثر، حالٌ حسيرٌ يطغى عليه اليأس والقنوط، والأنانية والمنفعة الذاتية، والحرص على المصالح والسعي نحو المنافع، والصراع من أجل البقاء ولو بذلٍ وخنوعٍ، والانبطاح في سبيل الوجود، لكن بتبعيةٍ ورجعيةٍ وانقياد، فقد بتنا بأخلاقنا وسيرتنا، وسلوكنا وممارساتنا، معرة على أنفسنا وسبة في جبين أجيالنا، وصفحة سوداء في تاريخ أمتنا، ووصلنا إلى دركٍ سحيقٍ ما ظننا يوماً أن ننحدر إليه، وسقطنا في حفرةٍ منتنةٍ ما كنا يوماً نتوقع أن نهوي إلى قعرها.
قد لا يكون هذا وصف حال أمتنا عامةً، ولا هو تصويرٌ شاملٌ لكل شعوبنا، إذ لا أنزع الخير من هذه الأمة، ولا أنفي عن أبنائها الرشاد، ولا أقنط من مستقبلها، ولا أشيح الوجه عن بعض صفحاتها المشرقة ولوحاتها الوطنية والقومية الرائعة، ولا أعمم في مجتمعاتها المرض ولا أشيع بينها السوء، ولكنها فئةٌ من الأمة ضالة، ومجموعة من الفاسدين المنحرفين، الذين يحسنون رفع الصوت، وتكبير الصورة، ويتقدمون الصفوف ويزاحمون على الصدارة، ويدعون كذباً الصدق والأصالة، إذ أننا سكتنا عن هذه الألسن السليطة ولم نقطعها، وصمتنا عن هذه الشخصيات المريضة ولم نبترها، وارتضينا العيش مع الضالين ولم نلفظهم أو ننبت عنهم، حتى غدو هم أصحاب الصورة وحملة اللوحة والريشة، وأهل الثقافة والقلم، ينشرون الكلمة ويرسمون الصورة، ويعبرون بكذبٍ وزيفٍ وخداعٍ عن حال الأمة الصامتة الخرساء.
لا أجد خيراً من كلمات الداعية الكويتي محمد العوضي مخاطبا ًامرأة فلسطينية، يرد بها على كل المارقين الضالين، لأنهي به مقالي هذا "امنحيني خيطاً من حذائك لأخيط به أفواهاً نجسة، تنافق أمريكا وتغازل إسرائيل".
بيروت في 18/11/2017
واقرأ أيضا:
فلسطينُ ضحيةُ الحربِ العالميةِ الأولى / سياجُ الوطنِ جاهزيةُ المقاومةِ ويقظةُ الشعبِ / غداً في غزةَ الجمعةُ الأخطرُ والتحدي الأكبرُ