أخطر مؤامرة تتعرض لها الأمة منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر ولا تزال في ذروتها، هي التآمر بالدين، فالدين الذي فجّر الطاقات وأنشأ الحضارات السامقة، يتم استعماله للانقضاض على أهله في كل مكان. فالإنسان في مجتمعاتنا لا يختلف عن غيره، بل أنه يكنز مؤهلات حضارية وإبداعية متميزة ونوعية، وقد انطلق متسائلا عن سبب تخلفه عن ركب العصر الذي هو فيه منذ قرن ونصف، وأوجد الأجوبة والحلول والمناهج الكفيلة بتحقيق النقلة المطلوبة للتواكب مع إرادة الحياة، لكن الذي حصل أن القوى الطامعة تمكنت من تحقيق طموحاتها ومشاريعها بواسطة الدين، الذي حوّلته إلى أدوات سياسية واستبدادية واستعبادية لأخذ الأجيال إلى مطبّات الضياع والهلاك الحامي.
ووفقا لذلك تأسست الأحزاب (الدينية) التي يمكن القول بأنها وبلا استثناء ممولة ومسخرة لخدمة أغراض خفية، أدّت بالأمة إلى ما هي عليه اليوم من الضعف والتأخر والهزال. قد يقول قائل أن هذا تعميم وعدوان، لكن النتائج المتحققة تخبرنا عن طبيعة عناصرها وآليات تفاعلها، وما أنجزته على مدى أكثر من قرن يؤكد ما تقدم من تقييم وتوصيف، فهي غير وطنية فلا تؤمن بوطن، وإنما عقيدتها عالمية ونوازعها عولمية وتصوراتها وهمية، ومتأسنة في خنادق غابرة مطمورة تحت أنقاض الأزمان، ويمكن القول بأنها متحجرة ومصفودة بالتقليد الأعمى الذي يلغي وعاء المكان وأنوار الزمان، ويحسب الدنيا ممنوعة الدوران.
فهي مضغوطة عاطفيا ومعبأة انفعاليا، وتمتلك متاريس سميكة تتقوقع فيها وتتفسخ، ولا تريد أن تتواصل وتتجدد وتعبق من هواء العصر وتشرب من الماء الجاري، وإنما يحلو لها ماء المستنقعات العفنة. وهي أحزاب عدوانية إجرامية تسوّغ أبشع الجرائم ضد الإنسانية بنصوص وتأويلات تراها دينية وتتصور بأنها صاحبة الجوهر واليقين.وقد أخطأت دولنا الناشئة في الاعتماد عليها في تعزيز السلطة والحكم، وبمحاربتها بالسلاح وفرض القوة عليها، وفي الحالتين ارتكبت حماقات وخطايا، لأنها أسهمت بديمومتها وتوالدها وتناميها، ووصولها إلى فرض هيمنتها على الوعي المجتمعي، واعتقال الأجيال في صناديق تصوراتها وثوابتها الراسخة التي لا تقبل الاعتراض والسؤال، وإنما لابد من التبعية والخنوع والقبوع، وعدم إعمال العقل ووأده أو تعطيله ومنعه من التفاعل مع الحياة، التي تم تصويرها على أنها محكومة بإرادات وطاقات وقدرات دينية وحسب.
والحقيقة المغيبة أنها تم تأسيسها لسحق المشاريع النهضوية التي بدأت منذ قرن ونصف، وذلك لأنها رفعت شعار "الإسلام هو الحل"، وفي هذا المنطوق تكمن مصيبة أمة تم عقر عقولها وتكسيحها، وتشجيعها على استلطاف الضعف والانكسارات والهزائم والتبعية والحنوع، وتأهيلها لكي تكون مُستعبدة ومحطمة ومنزوعة الإرادة ومصادرة المصير. وبسبب عدم وعي دواعي الإنشاء أخطأت الأنظمة السياسية التقدمية عندما واجهتها بالقوة، وأغفلت أن عليها أن تواجهها فكريا وثقافيا وتفند طروحاتها الظلامية الغابرة، وتهزمها بالحجج الدامغة المحفزة للعقل والمنمية للوعي والإدراك العربي الجمعي. ذلك أن المواجهات العسكرية تم توظيفها لتأجيج العواطف والانفعالات، وبناء حالة تجنيد وترفيد لها مما أسس لقواعد متمددة في نهر الأجيال، وهي كالصخور الكبيرة المعوقة لانسياب الجريان في نهر الحياة الصاخب التيار.
وتقف الأمة اليوم مذهولة ومعها العالم بأسره أمام بشائع الأحزاب (الدينية) التي تتحكم بمصير عدد من دولها، وكيف أنها كشفت على أنها حركات إجرامية متلثمة بدين، وما دينها إلا ما تمليه عليها النفس الأمارة بالسوء والفواحش والمنكر المشين. أحزاب ضد الوطن والوطنية والهوية والإنسانية والعلم والبناء والتقدم، إنها أحزاب تدميرية تخريبية تابعة ومنفذة لأجندات الآخرين، ولكن باسم الدين، وباسم قادتها المقدسين الذين لا يخطئون ولا ينطقون عن الهوى، إنما كل ما يقولونه وحي من أسيادهم يوحى إليهم، وعلى القطيع المرهون بإرادتهم أن يتبع ويقبع ويكون من الخانعين، وإن سألت عن العقل، أجابوك بأنك من الكافرين، والزنادقة الأولين.
إنها مصيبة أمة ودين، ولن تتعافى الأمة ويتطهر الدين إلا بحرمانها من دورها المتاجر بحياة الناس المساكين!!
وإنّ الدينَ نورٌ، وبها أصبحَ نارا؟!!
واقرأ أيضاً:
تعاونوا مع حكوماتكم يا عرب!! / اضطراب الاستهتار بالقوة!! / الوحدة العربية الفاعلة فينا!! / لبثوا ولبثنا!!