يسألونك لماذا تأخرنا، وهو سؤال قد حضر في الواقع العربي منذ القرن التاسع عشر، وأجاب عليه رجالات تفكروا وتنوروا وشاهدوا وعايشوا أسباب التقدم والانطلاق، وكان جوابهم صائبا ودقيقا، لكنه ألقي في مزابل الرؤوس العفنة النتنة المظلمة. وجوابهم علينا أن نتخذ من العلم والتكنلوجيا سبيلا لحياتنا لكي نتقدم.
فثارت عليهم اللحى والعمائم وأعلنت بقوة إنها البُدعة والمَفسدة والدعوة لإهلاك الأمة، ولو سألوهم وما معنى "طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة"، لقالوا المقصود به علوم القرآن والفقه والشريعة، وكأن هذه العلوم كانت موجودة في زمن النبي الكريم، ولو سألوهم عن "اطلب العلم ولو في الصين"، لقالوا أنه حديث ضعيف وغير مسند، وما إلى غير ذلك من الادّعاءات.
وفي حينها الحاكم أو الخليفة كان يعتمد على ذوي اللحى والعمائم في تثبيت أركان حكمه، فيذهب مذهبهم ويتبع رؤاهم أو فتواهم، ولهذا لم يستمع لقول الحق، ومضى في تأكيد قول الباطل. والعجيب في الأمر لو راجعنا خطابات رؤساء وحكام العرب في القرن العشرين، فلن نجد خطابا يشير إلى أهمية العلم والتكنولوجيا في النهضة والتقدم، إلا عند الرئيس الجزائري الراحل هواري بومدين والقليل النادر من الآخرين.
أما خطب الجمعة فكأن من المُحرم على خطيب أن ينطق بكلمة علم وتكنولوجيا، وحتى اليوم، ومنذ بداية القرن العشرين لن تجد ما يشير إلى ذلك، وإنما هي خطب تحريضية عدوانية انفعالية تثير حماس السلوكيات السلبية، وتؤدي إلى الفرقة والتضاغن وتنمية الكراهية باسم الدين.
الدين الذي حسبوا العلم يفسده ويؤذيه، وإذا بالدين يقاتل الدين وينهكه ويفسده، ولا يزالون لا يدركون أن الدين بالعلم يستقيم وينير، ولهذا فإن العلم في بلاد الغرب ما أذهب الدين، بل زانه ورفده بمقومات التفاعل المعاصر مع الناس.
والأغرب من ذلك أن المفكرين والباحثين في مجتمعاتنا أمضوا أعمارهم يكتبون ويبحثون في قضايا لا تمت إلى جوهر العلة وأسبابها الحقيقية، فألفوا مئات الكتب في متاهات التأريخ والدين، وكأن العرب لوحدهم لديهم تأريخ ودين، وأسهبوا في استحضار أسباب لا نقاقة لها ولا جمل فيما حصل ويحصل، وما فكروا بالعلم وأهميته ودوره في التقدم، وما سعى جميعهم إلى رفع رايات العلم والمعرفة وتأكيدها والعمل بموجبها لكي يتقدم المجتمع.
وإنما هي طروحات تحقق ترسيخها في الواقع لتبرير العجز والكسل والانكسار والاندثار، واستلطاف الشعور بالتبعية والدونية والتأخر، ومنع التفكير بأن القدرة على التقدم ممكنة، وسلاح العلم هو السبيل للخروج من الظلمات إلى النور.
ويبدو أن التخلص من عقلية الدوران في فلك العمائم واللحى محنة عربية عظمى، لأن البشر لا يقيم وزنا لقيمته وإنسانيته وحقوقه، ويميل إلى التبعية والببغاوية والعاطفية والانفعالية، التي تراكمت فيه عبر أجيال وأجيال استعبدها الضلال والبهتان، وصارت تخشى من العلم وترهب التعلم، وتجد في الجهل مرتعا منيفا.
ومن العجب العُجاب أن معظم المفكرين والباحثين قد أغفلوا أن من أهم أسباب التأخر، إهمال إعمال العقل العربي ونكرانه لآليات وكيفيات التفكير الحضاري، التي خبرها جهابذة ورموز العلوم والمعارف العربية، كابن سينا وابن رشد والفارابي وابن النفيس والرازي وابن الهيثم والخوارزمي وأمثالهم.
واقرأ أيضاً:
الوحدة العربية الفاعلة فينا!! / لبثوا ولبثنا!! / التآمر بالدين!! / العقل والاعتقال!! / النفاق المعمم!! / التأخر مذهبنا!!