تعتبر منظمة التحرير الفلسطينية أساس النظام السياسي الفلسطيني الحالي ونقطة ارتكازه. فقد أعادت المنظمة ملامح الهوية الفلسطينية كما وضعت إطاراً مؤسساتياً سياسياً وقانونياً لشعب يقبع نصفه تحت الاحتلال والنصف الآخر مشرد لاجئ يعيش غريب مبعد عن وطنه. والمتغير نشأة السلطة الوطنية الفلسطينية بعد توقيع اتفاق أوسلو من واقعا لنظام السياسي الفلسطيني، لأنها جاءت بتكليف من المنظمة نفسها وتحت إشرافها، وضمن مهام إدارية محددة لسلطة حكم ذاتي انتقالي مؤقت في إطار مناطق محتلة في الضفة الغربية وقطاع غزة. إلا أن التجاوزات الكبيرة بتهميش السيادة القانونية والسياسية لمنظمة التحرير لصالح السلطة الوطنية أدخلت الواقع الفلسطيني في مأزق خطير متصاعد. وشكل فوز حركة حماس في الانتخابات التشريعية للسلطة أبرز مظاهر ذلك المأزق. وقد يكون إعادة الاعتبار السياسي والقانوني لمكانة المنظمة وتقسيم الصلاحيات بينها وبين السلطة حسب الأصول، هو السبيل الوحيد لإعادة التوازن السياسي للحال الذي وصلت إليه البلاد اليوم.
تعرض الفلسطينيون خلال العصر الحديث لتطورات سياسية معقدة، أثرت بشكل جلي على مخرجات نظامهم السياسي. فما بين خضوع الفلسطينيين لسلطة الدولة العثمانية ثم لسلطة الاحتلال البريطاني ومن بعدها لمؤامرة سايكس بيكو التي سلخت فلسطين عن امتدادها الجغرافي الطبيعي مع بلاد الشام عندما وضعت الحدود السياسية لفلسطين، اكتملت فصول المؤامرة بتكليف بريطانيا كسلطة انتدابية على البلاد، لصالح تمكين اليهود في أرض فلسطين. لقد خرج الفلسطينيون من هزيمة عام 1948 في أضعف حالاتهم فيما بين إحباط الهزيمة وتشرد مئات الآلاف من أبناء الشعب وضعف وانقسام عربي وعجز قيادي فلسطيني وقفت القضية الفلسطينية عند مفترق طريق خطير.
ورغم أن تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية، والذي جاء بناء على تكليف من جامعة الدول العربية في قمتها الأولى مطلع عام 1964، كان في ظل ظروف ومعطيات معقدة ومتداخلة، إلا أن المنظمة نجحت في لم شمل الفلسطينيين في إطار مؤسسي قانوني، الأمر الذي يعتبر إنجاز من الصعب إنكاره في ظل ما كانت تمر به القضية الفلسطينية آنذاك.
أصبحت المنظمة الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني والموجه الرسمي للسياسة الفلسطينية، وأصبح ميثاقها ونظامها الأساسي قوم بوظيفة الدستور، فرسخ مفهوم الهوية الفلسطينية، وجسد عملياً واقعة النظام السياسي الفلسطيني في ظل بقاء الاحتلال. فاعترف جميع أعضاء الجامعة العربية بالمنظمة كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني عام 1974، كما أصبحت المنظمة عضواً فيها، وانضمت إلى عضوية منظمة المؤتمر الإسلامي، وأصبحت عضواً مراقباً في الأمم المتحدة. وعام 1976 صدر بيان من قبل فلسطيني الأرض الفلسطينية المحتلة عام 1948 يؤكد على أن المنظمة تمثلهم أيضاً.
لم يكن الأداء السياسي العام للمنظمة بدون أخطاء أو انتقادات. كما أن البنيان القانوني لأذرع منظمة التحرير المختلفة عكس نظرياً شكلاً ديمقراطياً، في حين واجهت الممارسة الديمقراطية الفعلية صعوبات عديدة في كثير من الأحيان. إلا أن منظمة التحرير بقيت الإطار الفلسطيني الرسمي الجامع والمتفق عليه من قبل الفلسطينيين وغير الفلسطينيين. وواجهت المنظمة العديد من العوامل التي ساهمت في إضعافها، سواء على المستوى العسكري بعد خروجها من لبنان أو على المستوى المالي بعد حرب الخليج أو على المستوى السياسي بعد صعود مكانة حركة حماس في الأراضي المحتلة خلال سنوات انتفاضة الحجارة، ورفضها الانضواء تحت مظلة المنظمة وإعلانها عن ميثاق بديل عن ميثاق المنظمة، إلا أن أزمة المنظمة الكبرى جاءت بعد قيام السلطة الوطنية. فلم يتم الاكتفاء بالخلط بين دور المنظمة والسلطة رغم السيادة الدستورية للأولى على الثانية، بل جرى العمل على نقل صلاحيات المنظمة القيادية إلى السلطة، الأمر الذي أحدث خللاً كبيراً في منظومة الحكم، ظهرت بوضوح بعد فوز حركة حماس في الانتخابات التشريعية عام 2006.
ليس هناك أدنى شك في سيادة وسمو المنظمة قانونياً على السلطة. فقد تشكلت السلطة الفلسطينية عام 1993، بعد رسائل الاعتراف المتبادلة بين منظمة التحرير وإسرائيل، حيث اعترفت المنظمة بحق إسرائيل في الوجود، بينما اعترفت إسرائيل بالمنظمة ممثلاً عن الشعب الفلسطيني، وبعد إقرار إعلان المبادئ الذي نص على ترتيبات إنشاء حكومة ذاتية انتقالية، لفترة لا تتجاوز الخمس سنوات. ورسخ اتفاق غزة ـ أريحا مصطلح السلطة الوطنية، بعد تشبث قيادة المنظمة به، تيمناً بما جاء في برنامج النقاط العشر.
وجاء إقرار المنظمة بإقامة السلطة بعد مصادقة المجلس المركزي للمنظمة في تونس في الشهر التالي لإعلان المبادئ، حيث فوض المجلس المركزي اللجنة التنفيذية بتشكيل السلطة، بناء على قرار المجلس الوطني، على أن تكون المنظمة مرجعيتها، وهو ما أعاد القانون الأساس للسلطة التأكيد عليه. ونصت المادة الثانية من الاتفاقية المرحلية والتي وقعت في واشنطن عام 1995 على التزام المنظمة بإجراء انتخابات سياسية عامة لمجلس السلطة (المجلس التشريعي) ولرئيسها، مع التأكيد على أنها ليس تبديلاً عن المنظمة. واعتبر قانون الانتخابات الفلسطيني الصادر نهاية عام 1995 أن أعضاء المجلس هم أيضاً أعضاء في المجلس الوطني، على اعتبار أن المجلس التشريعي يعمل ضمن إطار المجلس الوطني. كما أن صلاحيات المجلس التشريعي محددة ضمن فترة انتقالية وضمن نطاق الضفة الغربية وقطاع غزة، في حين احتفظ المجلس الوطني بصفته التشريعية والتمثيلية للشعب الفلسطيني كله.
وأكدت المادة التاسعة في فقرتها الخامسة (ب) من الاتفاقية المرحلية على أنه ليس من صلاحيات المجلس ممارسة أية مسؤولية تتعلق بالعلاقات الخارجية، على أن تقوم المنظمة بالمفاوضات وتوقيعا لاتفاقيات مع الدول أو المنظمات الدولية لصالح المجلس في الأمور التالية: اتفاقيات اقتصادية (الملحق الخامس) واتفاقيات مع الدول المانحة واتفاقيات تنفذ خطط تنموية إقليمية (الملحق الرابع) واتفاقات علمية وتعليمية واتفاقات في إطار المفاوضات المتعددة.
ليس هناك شك في حالة التهميش التي لحقت بدور المنظمة لصالح السلطة، والتي بدأت حتى قبل قيام السلطة فعلياً على الأرض، وقائمة الشواهد على ذلك طويلة. فاشترطت المنظمة عندما أقرت إقامة السلطة أن يكون رئيس السلطة هو نفسه رئيس اللجنة التنفيذية، وأن تتشكل السلطة من عدد من أعضائها، وهو الأمر الذي تسبب في خلق ازدواجية وخلط كبير بين دور المؤسستين. فقد تجاوزت السلطة على سبيل المثال في ممارستها للسياسة الخارجية صلاحيات المنظمة المنصوص عليها في اتفاقات أوسلو نفسها. فأصبحت السلطة بكوادرها ومؤسساتها صاحبة القرار السياسي الفلسطيني الحقيقي، في حين حيدت المنظمة وباتت مجرد هيكل صوري.
كشف نجاح حركة حماس في الانتخابات التشريعية عن عمق أزمة النظام السياسي الفلسطيني، التي عكسها الخلل في تطبيق التزام السلطة بمهامها الإدارية وقفزها على صلاحيات المنظمة السيادية في صنع القرار السياسي. ولو أن مكانة وصلاحيات السلطة بقيت ضمن حدودها الإدارية حسب النص والقانون، ليحافظ النظام السياسي الفلسطيني على توازنه في ظل صعود أي فصيل سياسي غير حركة فتح في انتخابات السلطة، والتي تسيطر على قرار المنظمة.
ليس هناك حل للتخلص من المأزق الفلسطيني الحالي وحالة الانقسام إلا باستعادة المنظمة لدوره التمثيلي والسياسي والقانوني واستكمال إصلاح مؤسساتها. فليس من المنطقي أو المقبول أن ينتهي دور المنظمة قبل أن تحقق الهدف الرئيسي الذي جاءت من أجله قبل أكثر من خمسة عقود. وليس من الممكن أن تقود السلطة السياسة الفلسطينية وحدها في ظل استمرار احتلال يقيدها باتفاقات واختلال في موازين القوى على الأرض لصالحه. إن الصيغة التكاملية وتقسيم العمل بين صلاحيات المنظمة السيادية والقيادية وصلاحيات السلطة الإدارية، بما في ذلك إعادة تحديد وظيفتها ومهامها، هي الطريق الوحيد للحفاظ على المشروع الوطني الفلسطيني.
واقرأ أيضاً:
وعد عباس ووعد بلفور في نوفمبر / في ذكرى وعد بلفور دولة للشعب اليهودي...!؟ / هل سيستطيع الفلسطينيون مواجهة مؤامرات تصفية قضيتهم؟ / إعلان بلفور أكبر جرائم هذ العصر