بعد مآسي الحرب العالمية الثانية (1939-1945) التي قتلت واحدا وستين مليون إنسان، وخربت العمران وأصابت البشرية بويلات مرعبة لا مثيل لها إلا في الحرب القادمة لا سامح الله، وقفت الدول مذهولة أمام هول المشهد الدامي وقررت أن تبتكر وسيلة لمنع تكرار هذه المأساة الأرضية الهائلة.
وفي العاشر من كانون الأول لعام ألفين وثمانية عشر، تمر الذكرى السبعون لإعلان حقوق الإنسان، ولا بد من تهنئة أنفسنا لأننا استطعنا أن نصدر وثيقة بشرية تعترف بحقوق الإنسان التي هدرناها على مر الأزمان ولا زلنا نهدرها بشدة وإمعان.
فهل أن إعلان حقوق الإنسان قد ولد ضعيفا، أم أن حقوق الإنسان حقا بالصون والأمان؟ وهل أن إعلان حقوق الإنسان مجرد كلام وحبر على الورق، أم أنه فعل إنساني جماعي معبر عن الدفاع الجاد عن حقوق الإنسان؟
وهل أن البشرية فعلا ارتقت إلى مستوى الإنسانية وترفّعت عن التوحش والحيوانية؟ وهل أنها آلية نافعة للدفاع عن الحقوق الإنسانية وتجسيدها في المجتمعات، أم أنها مجرد تقارير صحفية للإشارة إلى أن حقوق الإنسان قد تم انتهاكها، وفي بعض الأحيان هناك الخوف الذي يمنع الإعلان عن الامتهان والانتهاك السافر؟
البشرية أمام محنة أخلاقية خطيرة وسلوكيات مدمرة لوجودها، بسبب الإمعان بالأقوال، والتناقض في الأفعال وإشاعة الخراب والفقر والجوع والجهل والدمار. البشرية أمام امتحان صعب عليها أن تنجح فيه، وإلا ستسقط في مهاوي الجحيم النووي والتدمير الشامل لكل حضارتها ووجودها في الأرض.
حقوق الإنسان تُنتهك ولا نملك إلا الصراخ والتصريحات الخافتة، بل أن هذه الحقوق يتم تسويغ انتهاكها وسحق البشر تحت مسميات يتم اختلاقها، وأوصاف يتم إطلاقها عليه لكي تشرعن إفناءه ومحقه ومَن معه وحوله من الآخرين.
انتهاك حقوق الإنسان أصبح حرفة ومهارة كرسوية في بعض الدول، وتقودها أنظمة كاملة بقوانينها ومؤسساتها، وهمّها أن تبقى في الكرسي وحسب، وتسحق جميع حقوق أبناء شعبها وكرامتهم وتضعهم في السجون والمعتقلات والمقابر، وتعذبهم عذابا مريرا، ولا مَن ينهض ويمنع هدر حقوق الإنسان، لكننا ما أشجعنا وأعظمنا حماسة لسلخ الإنسان من الإنسان وتدمير وجوده، ونحسبه شيئا ورقما على يسار حروف الاستبداد والطغيان والظلم والشرور.
ومشاهد انتهاك حقوق الإنسان متنوعة ومتكررة في الواقع العربي، ولا من إرادة إنسانية ناهضة بوجهها، لأن المعنى التوصيفي لحقوق الإنسان يتناسب طرديا مع المصالح، فإن كان الذي يجري في الواقع متوافقا مع المصالح، فهذا ما يبرره ويسوغه، ويدعو لغض الطرف عنه. فالكثير مما يجري في بعض البلدان ما هو إلا انتهاك رهيب لحقوق الإنسان، وهناك مظاهرات ومنظمات لا تسكت وتُظهر للدنيا ما يحصل من سلوكيات تخالف القيم والأعراف المنصوص عليها في لائحة حقوق الإنسان، فأين العالم المتحضر والأمم المتحدة من هذا الجور والقهر للإنسان باسم العدالة والديمقراطية والإحسان؟
فعندما أنشِئت الأمم المتحدة كانت المبادئ الأساسية لقيامها السلم والأمن والعلاقات الودية والتعاون لحل المشاكل وتعزيز احترام حقوق الإنسان، وعلى مدى العقود الماضية اشتعلت الحروب القاسية ما بين العديد من دول الأمم المتحدة، وفي داخل الكيانات السياسية المستقلة، وتأسست أنظمة دكتاتورية واستبدادية، كفرت بذاتها وبموضوعها، ودمرت أوطانها وشعوبها، وأذاقت الحياة علقم الكراهية والشر والعدوان.
وماذا فعلت أمام كل ذلك حقوق الإنسان، فقد ازداد الجوع جوعا والفقر فقرا والظلم ظلما والغطرسة غطرسة، والفتك فتكا، والتهجير والترويع والقهر والحصارات البشعة والحروب المعاصرة التي أفنت حياة آلاف الأطفال. لقد غابت حقوق الإنسان أمام الشر الشرس المرير الطويل الذي حول الحياة إلى جحيم ومقابر وآلام وأوجاع وحرمان وطغيان وتهجير، واستترت خوفا من المآسي المروعة التي ترتكب بحق الأبرياء في كل مكان، بإسم أرقى المثل والقيم وبإسم الأديان.
فهل أنها حبر على ورق إلا فيما ندر وجاد به الإمكان، أم أن الكرسي أصبح أعظم حقا من الإنسان؟
ولكي تتأكد حقوق الإنسان علينا أن نشيع ثقافة هذه الحقوق بين الناس، وأن نرتقي بوعي البشرية لتمارس السلوك الحضاري المعاصر، الذي يتحاور مع الإنسان ويحترمه ولا يمتهنه ويستغله ويقهره، ويقتله بسبب الشكل أو اللون أو الرأي والمعتقد، فالكثير من شعوب الأرض قد تجاوزت هذه المعوقات وانتقلت إلى مرحلة التآلف والتفاعل المقيد للجميع.
ومهمة التوعية والتثقيف على حقوق الإنسان ليست سهلة وتحتاج إلى جهد إعلامي متواصل ومثابرة، وإصرار على أن تكون ضمن المناهج الدراسية في جميع مدارس الأرض لكي يرتقي الإنسان إلى إنسانيته، ويبتعد عن سلوك الكراهية والبغضاء والشرور ويحترم نفسه وأخوانه من المخلوقات.
فهل أنها عقوق* أم حقوق؟!!
___________________________________________________
•* عق والديه: عصاهما وترك الإحسان إليهما، والعقوق: العصيان والجحود
واقرأ أيضاً:
الحاجة ضد الاختراع!! / البلدية والمدينة!! / كليات وأمنيات!! / قافلة أكون!! / الخيالية!! / لعبة الدين والبلاء!!