الطبيعة البشرية تدفع بالبشر الذي يتسلط على البشر إلى سفك الدماء وانطلاق شهواته وشراهته لكنز المال، وهذه الاضطرابات الثلاثة هي القاسم المشترك في جميع السلطات منذ الأزل ولا تزال فاعلة في معظم السلطات القائمة في الأرض، إلا في بعض المجتمعات التي حاولت أن تضبط السلطة بدستور وقانون وبرلمانات ومجالس شيوخ، ومع هذا فإن الانفلات يتحقق والنزوع نحو تأكيد الاضطراب قائم وفي أقوى الدوائر السلطوية.
والتأريخ يخبرنا عن ندرة الذين حكموا وتعففوا وزهدوا وامتنعوا عن الانفلات السلوكي والرغبوي، وهم الذين نتحدث عنهم أكثر من غيرهم ونضرب بهم الأمثال، وبأنهم لا يتكررون، لأن الانتصار على النفس البشرية معضلة كبرى وهزيمة ماحقة سارية في البشر. ولهذا تجد المجتمعات الخالية من الدساتير الوطنية المٌحكمة والقوانين الصارمة يتنامى فيها الفساد، والسلوكيات المنحرفة والامتهانات والتفاعلات الرغبوية الصرفة، التي يهمها إرضاء الحاجات الآنية والفورية، مما يتسبب بتداعيات خطيرة في المجتمع.
ولا يمكن لأي دين أن يكبح جماح انفلات الرغبات والشهوات عند ذوي السلطان بأنواعهم، لأنهم سيجدون في الدين ما يبرر نزقهم وتهورهم وإمعانهم بالتعبير عن الرغبات المطمورة فيهم. والسر في ذلك أن السلطة مثل الخمر أو المخدرات تحرر الشخص من الرادع الذاتي أو الضابط الداخلي فينفلت ما فيه، لأنه يرى بأنه فوق كل شيء وله كل شيء وصاحب القدرة على فعل أي شيء، فهو الآمر الناهي، والذي يقرر مصير البلاد والعباد.
وتلك محنة كبيرة وعاهة مريرة تدفع الشعوب والمجتمعات ثمنها باهظا وعظيما، لأنها تفقد قيمتها ودورها وتتحول إلى وجودات فاعلة وفقا لما تمليه رغبات المتسلط عليهم والقاضي بتقرير مصيرهم أنى يشاء. وقد شهدت بعض مجتمعاتنا في القرن العشرين العديد من الذين تسلطوا، وانفلتت شهواتهم وانطلقت غرائزهم حتى أصابهم العماء وانتهوا شر نهاية.
ومن هنا فإن الواقع السلوكي البشري بحاجة إلى روادع وضوابط، ولا فرق بين ما في البشر أيا كان مستواه في المسؤولية والسلطة، وقد وعت هذه الحقيقة المجتمعات المتقدمة، فأسست لأنظمة تشريعية وقانونية تضمن عدم انفراد الأشخاص بالقوة، وأن تكون مراكز القوة متعددة ومتنوعة ومرهونة بإرادة الشعب المعبَّر عنها بهيئات تشريعية وتنفيذية متنوعة، عليها أن تتفاعل وتقبض على مصير البلاد والعباد ولا تدعه بقبضة شخص مفلوت الرغبات ومطلوق الشهوات.
فهل ستتبصر بعض المجتمعات وتعي ضرورة أن لا تسلم أمرها لفرد أو بضعة أفراد أو أحزاب وفئات؟!!
واقرأ أيضاً:
البلدية والمدينة!! / كليات وأمنيات!! / قافلة أكون!! / الخيالية!! / لعبة الدين والبلاء!! / الإنسان بين الحقوق والعقوق!!