الأديان موجودة في المجتمعات البشرية منذ الأزل وباقية ومتنامية إلى الأبد، وفي الدنيا عشرات المئات من الأديان (أكثر من أربعة آلاف ديانة) والآلاف من المعتقدات والطوائف والمذاهب والتصورات التي ينتمي إليها مجاميع من البشر، وبين آونة وأخرى يظهر شخص ويتبعه آلاف المُريدين وفي كافة المجتمعات المعاصرة والغابرة. فالأديان كثيرة متعددة متنوعة والمعتقدون بها يتفاوتون بأعدادهم، ولكل دين أتباعه والمنضوين تحت لوائه والمؤمنين به، ودرجات الإيمان لا تختلف ما بين الأديان، وآلياتها الشكلية أو الطقوسية تتنوع لكنها ذات غاية واحدة وهدف مشترك. ولو نظرتَ في الأديان لوجدت معظمها يدعو إلى ما هو مثالي وسامي وطيب ونافع للحياة وتكاد تتشابه بهذه المنطلقات، لكن الواقع البشري يشير إلى تفاعلات متفاقمة سلبية الطباع ما بين الأديان.
هكذا هي الأديان وغاياتها وتوجهاتها، وبرغم كثرتها لا نجد سلطات سياسية وأحزاب تعبّر عنها، وما أمسكت الحكم إلا نسبة قليلة منها، وهذا يعني أن الدين دين والسلطة سلطة، ولا يمكن القول بأن الدين يمكنه أن يجلس على كرسي الحكم ويتسنم السلطة المدنية خصوصا في هذا الزمان. وإلا لماذا لم تصل مئات الأديان الأخرى للحكم؟
إنّ ضخ أي دين بمنطلقات سياسية ونوازع سلطوية سلوك مناهض للدين ومدمر له، ووسيلة لمحاصرته وإظهاره على غير حقيقته، فمعظم الأديان التي تسلطت تركت بصمات قاسية ومروعة في مسيرتها يندى لها جبين دينها وجوهر ما فيه. ذلك أن السلطة حالة قائمة بذاتها ولا يمكن مزجها أو تلوينها بأي معتقد ديني أو حزبي، السلطة ذات قوانين غابية صرفة وإن أطرتها أو مكيجتها بما يحلو لها من التزويقات والأكاذيب والادعاءات الباطلة، التي تهدف من ورائها التعبير الفائق عن الغابية المنفلتة فيها.
فالأحزاب الدينية تدمر الدين، وإن حكمت فإنها تمحق الدين، والأحزاب العقائدية بأنواعها ما أن تتسلط حتى تدوس على لب عقائدها وشعاراتها ومنطلقاتها التي كافحت من أجلها، لأن السلطة تفرض عليها قوانينها وأجنداتها وتكشر لها عن أنيابها الغابية والافتراسية والعدوانية، وما يتصل بالفتك والقتل والاستحواذ على مصير الآخرين.
وعليه فإن من الصائب أن يحقق الدين فحواه في ميادينه الاجتماعية الكفيلة بتأكيد القيم الأخلاقية الكامنة فيه، وأن ينأى عن تطعيم ذاته وموضوعه بالتطلعات السياسية والسلطوية، ويتناسى قوته الأخلاقية ودوره في تأهيل المجتمع لحياة طيبة ونافعة للجميع. فالدين قوة أخلاقية وسلوكية وقيمية فوق جميع السلطات، وبهذه القوة الناعمة يمكن للدين أن يتحكم بالحياة ويقودها نحو الآفاق السامية، والتطلعات المتآلفة القادرة على البناء والتقدم والرقاء.
ومن الغريب أن تغفل بعض الأديان دورها الحقيقي في بناء الإنسان، وتنزلق وراء السلطة وتحسب أنها من خلالها يمكنها أن تعبر عن الدين، وهذا مفهوم عدواني على الدين ترافق مع تأسيس الأحزاب اللازمة لتأمين مفاهيم الحروب بالوكالة خصوصا بعد الحرب العالمية الثانية، التي تعلمت منها الدول القوية أن عليها أن لا تتحارب على أراضيها، لأن في ذلك تدمير رهيب لكينوناتها الحضارية.
فهل أدركنا أن الدين دين والسلطة سلطة، وأن الدين قيم وأخلاق والسلطة شريعة غاب واحتراب؟!!
واقرأ أيضاً:
الخيالية!! / لعبة الدين والبلاء!! / الإنسان بين الحقوق والعقوق!! / السلطة واضطراب السلوك!! / مفهوم الأخلاق!!