هاتفني قائلا: الكتابة مضيعة للوقت، فالدنيا لمن وثب!!
قلت: الحياة مشارب ومذاهب!!
قال: مارس السياسة وتنعم بالفساد فهذا هو الديدن المنصور!!
قلت: الكتابة لا علاقة لها بهذا وذاك، وربما تكون مرضا يعاني منه الإنسان الذي يحاول أن يعيش بعقله!!
قال: دع الكتابة وتعالى معي لنتنعم بما يدره الفساد!!
قلت: وهل هذا من أخلاقيات الدين والحياة؟
قال: أي دين أي حياة، إنها القوة والسيطرة وحسب، والفائز مَن يملأ أرصدته بأموال النفط المُشاع!!
انتهى الحوار، وعدت إلى الكتابة، وتأملت ما قاله من كلمات مزعزعة وتصورات مروعة، ينطق بها إنسان من حملة الشهادات التخصصية العليا، واحترت في أمر الناس من عامة البشر، وماذا عليهم أن يفعلون، فهل أن مصيبتنا في هؤلاء المتعلمين من حملة الشهادات والتخصصات، والذين مات فيهم الضمير والأخلاق؟!! قلت لنفسي: الكتابة إدمان، وهي إدمان لذيذ، ولا فرق بين الإدمان عليها والإدمان على الكحول!!
كان لي زميل منهمك بتأليف الكتب، فيطبعها ويبذل مالا وجهدا ثم يركنها في مرآب البيت، فقلت له ذات يوم: إنك لمدمن حقا على الكتابة، فحدق بوجهي مستغربا، وهو يقول: ربما هذا هو الجواب على ما أقوم به، فلم أجني مالا من الكتب، بل هي خسارة متراكمة، لكن شعورا لذيذا يجتاحني وأنا أنظر إلى ما أصدرته من كتب!!
وفي واقع الأمر أن الكتابة نداء داخلي لا يُقاوم وعمل لا بد له أن يتحقق رغم أنف الكاتب، لأن الفكرة تهاجمه وتستحوذ عليه وتستعبده وتجبره على التعبير عنها والانطلاق بها إلى حيث تريد، فتكون هي السيدة وهو العبد المطيع المستسلم المستلطف لامتلاكها له.
ولا يمكن للكاتب أن يقول بأنه لن يكتب، لأن قرار الكتابة ليس قراره، وهذا يعني أن بعض الأشخاص يولدون وفي أدمغتهم مراكز متوقدة وقادرة على استجلاب الأفكار والتعبير عنها، ولهذا تخترها الأفكار وتتوافد إليها بتواتر يتناسب وقدرات تمثلها وإنتاج ما يؤكدها ويمنحها الفرصة للتفاعل مع عناصر الحياة.
فالأفكار إرادات صيروراتية تبحث عن قدرات تؤهلها للتحقق والنماء، والانتشار في أروقة الوجود المزدحمة بالكائنات المتنوعة الخصال والمواصفات. وعليه فإن الكاتب بلا قوة على مقاومة الفكرة أو طردها، لأنها لا تزوره أو تتوطنه عبثا أو صدفة، وإنما اختيارا وباندفاعية متوثبة لتحقيق كيانها وتجسيد فحواها، فهو المأمور وهي الآمر المطلق، الذي يمنحه الشعور بالعطاء المتميز الأصيل، وتلهمه ما لا يتمكن منه غيره، وتحفز في دنياه نبضات التلذذ بالمعنى المطلق للإحساس بأنه موجود وكائن دفاق.
ولهذا فإن الكاتب يكون مدمنا، بمعنى أنه يكرر فعل الكتابة، ويشعر بأعراض انسحابية إذا لم يمارس عادته اليومية، ويكتب ما تراكم في مخيلته من ذخائر إبداع وعطاء فكري وأدبي وفير.
وعدت إلى الذي هاتفني وقلت: إن الكتابة نور، وما تنغمس فيه نار!!
وإن أثر النور خالد ولهيب النار خامد!!
فاكتب أيها القلم، لأن الوقت الذي لا تكتب فيه هو الضائع!!
واقرأ أيضاً:
نفس الموقف عبر ثلث قرن!! فما لزوم الكتابة؟ / القائد والقاعد!! / هل الكتابة إدمان؟!! / الكتابة لا تنفع!! / الأسلبة في الكتابة!! / على باب الله: معضلة الكتابة / العربية أغنى اللغات!!