النخيل يتكاتف على ضفاف المياه المتماوجة، وأنغام طيور تتغنى بالحياة، وخرير ماء جميل، ونافورة تتدفق من أعماق البركة، فترتفع إلى أكثر من قامة رجل، فتنثر ماءها ابتهاجا بالحياة. والبط يسبح في مياه متلألئة الأمواج. وأجساد مستلقية تستغرق في حلم عذب تحت أشعة الشمس الدافئة. ومن بعيد تلوح سلسلة جبال كلحاء، تحيط بالمدينة لتحميها من العاديات، وعلى مدى اللحظات أصوات الطائرات يشق صدر الفضاء.
نعم، أجساد مستلقية وسماء صافية، تردد لحن الحياة، وترقص للحب والصفاء وأشياء أخرى.. كلها تسعى لغاياتٍ ومعانٍ يرفضها الإنسان بفعله ويقرها في أعماق نفسه.
البشر المتناقض، الذي لا يعرف ما يريد، ولا يفهم إلا بالمزيد من سفك الدماء، وإشاعة الحروب والفوضى، وزرع الآلام والآثام في الأرض. المنزوع القلب والمشاعر والأحاسيس، حينما يتعلق الأمر بالآخر من بني جنسه. كيف يتحول إلى وحش، ويرتضي لمن مثله، أن يتذوق مرارات الوجود، ويبقى متلذذا بأنانيته وتفرده بالإنجاز الذي يحققه لنفسه.
تساؤلات تدور في خلدي، وتعكر صفو جلستي في الجنينة، التي فيها ما لذ وطاب.
جنينة تجمع الحب والكراهية معا، وتحقق فعلا بشريا قاسيا، يدفع للتساؤل عن ماهية قتل البشر لأخيه البشر، القتل الذي لم يكن إلا أول فعل أتقنه، منذ أول خطواته فوق الأرض، وفقا لأساطير الأديان وقصة الخلق، إذا اقترف قابيل جريمته بقتل هابيل، وهي جريمة ذات علاقة بالقوة الكبرى. والتي تجسدت فيما بعد بتقديم القرابين البشرية، بأسلوب بشع ومهين لا يمكن تصديقه أو تخيله، حيث كانت تمر الضحية بطقوس مأساوية، تنتهي بالفتك بها باحتفال شعائري تعبدي رهيب.
وقد يتم خطف بشر من مجموعات أخرى، وتقديمهم قرابين للآلهة لكي تتحقق لهم الحياة، وكم قدموا الأطفال كقرابين، وكذلك النساء والرجال، وعذارى النيل وغيرها من رحلة القرابين البشرية عبر التأريخ البعيد.
ففي أوربا والشرق وكل أصقاع الأرض، كان الإجرام الشعائري وطقوسه المأساوية تملأ الدنيا، وقد تحول اليوم إلى حروب مرعبة فتاكة بوسائل متطورة ومدمرة، وفظاعات مسرفة، حيث الخطايا ترتكب في كل الدنيا، فلا رادع سماوي ولا قانون يمكنه أن يلجم جماح البشرية، عن هذا النزق الإتلافي والإمعان في سفك الدماء، وسحق الآخر واعتبار ذلك نصرا وفوزا عظيما، والواقع أنه مأساة مروعة وخطيئة ما بعدها خطيئة.
وباسم الأديان كافة تم اختلاق مبررات ومسوغات لا تحصى لقتل البشر. تلك حقائق صعبة ومفجعة نراها تتنامى في الأرض، وتطغى على الأفعال والنشاطات البشرية، وتمتلك الوسائل اللازمة لتواصلها، واستمرارها وتعميمها، وتحويلها إلى مشروع اقتصادي مربح. فقتل البشر بالحروب وغيرها من الفتن والاضطرابات، تجارة مربحة، تحقق الرفاهية لعدد منهم على حساب الآخر الكثير.
فالحروب تجارة، والفتن تجارة، وكل ما يجري على هذه الأرض، تجارة فردية أو دولية أو أكثر. لاشيء يتحقق إلا وفق منظور ربحي تجاري لا غير، هكذا تقول الوقائع والتطورات الحاصلة فوق الأرض.
لا مبادئ، لا أخلاق، لا قيم، لا مُثل أو تعاليم وشرائع دينية، لاشيء على الإطلاق. إنها المصالح والتجارة، وبيع السلاح، والحصول على الطاقة، لتحقيق الرفاهية والتطور للمتمكن على حساب الضعيف المستلب، الذي يقوم بدور الضحية والجلاد.
والطامع فيه بريء ومنزه، ولا يرغب إلا بتحقيق الخير والسعادة له، غير أن الضعيف هو الذي يرفض خيار الحياة الطيبة، ويختار حياة الموت فيحبها ويطمح إليها.
وهكذا فإن المهيمن، يعطي الضعيف ما يريده من الموت، ووفق وصفات إبادة متناسبة والظرف الذي يتحقق فيه، فمنها ما يقتل منهم المئات أو الآلاف وربما أضعاف هذا .
البشر الضعيف وفق مفهوم البشر القادر، يريد أن يموت وهو يحقق له ما يرغب به، وأنه يتفضل على البشر القوي، لأنه يريده أن يحيا برفاهية وقوة وسعادة. لقد اختار طريق الفقر والجهل والآهات، فالذنب ذنبه، وما على البشر القوي، إلا أن ينفذ ما يريده، بتقديم الموت هدية له، بالقنابل والصواريخ والأسلحة الفتاكة الأخرى. ولسان حاله يقول:
هل تعافينا وعشنا ما بها
إنّهُ القتلُ وحربٌ همنا
ذلك الوحشُ شديدٌ عندنا
رغم أنسٍ كوعيدٍ صوتنا
يا وديعا كيف تبدو خانعا
وقويًّا كمهابٍ بيننا
هكذا هي قصة الحياة وفلسفتها ببساطة متناهية، فهل سيرعوي الضعيف، فيحني رأسه ليباع في مزادات الرق والعبودية والامتهان.
هذه هي تناقضات الحياة وتوالداتها المتصارعة، باسم المبادئ السامية والشرائع والدساتير، التي ماهي إلا أقوال تناقضها الأفعال، وخيارات تبررها الرغبات والآمال.
فالبشر الذي يقول جميلا، في أكثر الأحيان يفعل قبيحا، لأنه يجنح إلى أن يناقض ما يقوله، وكأنه يريد أن يتستر خلف أقواله، فالشعارات كاذبة والأفعال غائبة.
إن ديدن الحركة والصراع اليومي، عبارة عن أنانيات متفاعلة يحرق بعضها البعض، ويقتل مافية من دواعي الخير، ويرميه في جحيمات الضغائن.
وسمعت صوتا يتردد بين الصخور، ويقول:
يا وحوشا أبغابٍ عُرْفنا
وحشنا فينا،آدميٌ جلدنا
كل نفس كشرت عن نابها
نفسنا تبغي افتراس نفسنا
فالجميل للقبيح ساترٌ
والقبيح حين تخلو عزمنا
هكذا تمضي البشرية في رحلتها الأرضية، وهي في غاية السرور، تشرب دما وخمرا، وتأكل أثمارا وشرا، وتتربع على عرش الدمارات المتلاحقة، والمتاهات المتفاقمة، في بطحاء السوء والبلاء والحروب الشعواء، وصراخ ودموع التعساء البؤساء الأشقياء، الذين هم تحت رحمة النار المتمكنة والتي صارت تمسك برقبة الجحيم وتمتلك قدرات هائلة.
والتي تحول بفضلها البعض القوي إلى مجرم عادل و سامي، فإدانته جريمة لا تغتفر وفعله صائب صحيح لا يختصر.
لقد تحولت الجنينة الهادئة إلى غابة، تسمع فيها حفيف الأفاعي، وصرخات الفرائس، وزئير المفترسين الغانمين المتمكنين من مخلوقات الغابة، والقابضين على مصيرها المحتوم.
فلماذا تحضر الغاية بقوانينها إلى الجنينة التي أنا فيها؟
لأن القوانين متشابهة والتعبير مختلف لكن النتيجة واحدة، عنوانها "لكل مفترس فريسة وكل قوي ظالم وإن عدل".
فاطرد الوحش وقاتل أنفسا
واجعل الروح تنير دربنا
فهل سترتقي البشرية إلى بعض الإنسانية لترى النور؟!!
واقرأ أيضاً:
القائد والقاعد!! / العربية أغنى اللغات!! / الكتابة مضيعة للوقت!! / برانويا الكراسي!! / كفوء ومنكفئ!!