التعليم يصنع أجيالا ذات وعي متنور تسعى لتكوين رأي، لأن التعليم يساهم بأعمال العقول وتحفيزها، وحثها على المشاركة في الحياة بضروبها ومنها السياسية، ويبث في الناس روح المطالبة بالحقوق، والحرص على مصالحهم الوطنية، ونبذ التبعية والإذعانية والاستعباد. وهذه الحالة تصبح عبئا على الأنظمة الاستبدادية والفردية والتحزبية والفئوية وغيرها من أنظمة السيطرة على البشر، ولا يمكن استيعاب المجتمعات المتعلمة إلا بدساتير وطنية وقوانين فاعلة، تنظم السلوك وتحرص على المصالح بأنواعها، وتوفر المنافذ المُنظمة بأساليب ديمقراطية للتعبير عن الرأي وصون الحق، واحترام قيمة الإنسان وحقوقه ودوره في بناء الحياة الحرة الكريمة.
وبعض المجتمعات العربية ظهرت فيها أنظمة سمّت نفسها ثورية، فأحدثت تغيرات ثقافية وتعليمية متميزة، وبعد عقدٍ من الزمان وجدت نفسها أمام تهديد خطير بسبب الأجيال المتعلمة المعبرة عن رأيها والمصرحة بحقوقها ومصالحها، وبما أن تلك الأنظمة متشبثة بكراسي السيطرة والامتهان، فإنها شعرت بالخوف الشديد ووجدت نفسها أمام خيار مصيري عليها أن تنتصر عليه بزج الأجيال المتعلمة في أتون الحروب العبثية الظالمة القاهرة، فأهلكتها فيها، وبقيت تستبد وتطغى حتى تهاوت عن عروشها وأصيبت بأعجب الإذلال.
وقد كتبَ العديد من المفكرين الأجانب في حينها عن تلك الثورات وبأنها تصنع أجيالا ضدها، لأن المجتمعات المتعلمة عليها أن تعيش في أنظمة ديمقراطية ودستورية لكي يتحقق الاستثمار الأمثل لطاقاتها، ولتساهم في البناء والإبداع والتطور والنماء. لكن تلك الأنظمة أغفلت الحقيقة الدامغة، وقررت أن تتنتقم من الأجيال التي علّمتها، واندفعت نحو استنهاضها من الجهل والأمية وضخها بأدوات المعرفة والتعليم المعاصرة.
ولا تزال المجتمعات العربية لا تستوعب العلاقة الصميمية بين التعليم والديمقراطية، فهي تنطلق في مشاريعها التعليمية وتشدد قبضتها وتحكم سيطرتها على الواقع الذي تهيمن عليه، فتحصل المواجهة القاسية ما بين الشعب والكراسي المسيطرة عليه. والظاهرة تتكرر، وستتفاقم لأن المجتمع العربي سيزداد تعلما ومعرفة في زمن التفاعل العولمي والتواصلي السريع، ولا يمكن للكراسي أن تخنق الناس، وعليها أن تدرك بأن حرية الرأي والنقد والتفكير المشترك من ضرورات النجاح، فما عاد البشر قطيعا أو مسلوب الإرادة ومصادر المصير.
فلن تستقر المجتمعات العربية من غير وعي ثاقب لهذه الظاهرة الفاعلة في مجتمعات الدنيا قاطبة، والتي ترسم خرائط الحكم وتجبر القادة على سلوك الطريق الجماهيري المُرام، وإلا فإن المنطقة ستندفع نحو حروب دائمية ذات خسائر خيالية وغير مسبوقة.
فهل سيكون للشعب دور في تقرير مصيره؟!!
سؤال على طاولة المداولات، لكنه خطير!!
واقرأ أيضاً:
العربية أغنى اللغات!! / الكتابة مضيعة للوقت!! / برانويا الكراسي!! / كفوء ومنكفئ!! / البشر معضلة البشر!! / التنبؤية العربية السلبية!!