في أواخر القرن الماضي دعيت لإلقاء محاضرة عن المسيح في القرآن، فأعددتها وفقا للآيات القرآنية، وجعلتها على شرائح أعرضها أمام الحاضرين باللغتين العربية والإنكليزية.
وفي القسم الذي أعمل فيه، جاء طبيب باكستاني للتدريب وتحت إشرافي، فلربما يكون مؤهلا للعمل كمقيم دوري، وكان متدينا، وكثيرا ما يذكر العاملون في القسم بأنه ملتزم بأوقات الصلاة ويصوم، ويحدثني عن الإسلام.
وفي يوم المحاضرة اسطحبته معي، قائلا: ربما تساعدني في الإجابة على بعض الأسئلة، ويهمني أيضا تقييمك للمحاضرة.
وكان عدد الحاضرين أكثر من مائة، من المثقفين وأصحاب الاختصاصات.
وما أن بدأت بالكلام وبعد بضعة شرائح، حتى وجدته كالثور الهائج وسط القاعة يعارض ما أقوله بقوة وغضب وعدم مراعاة للأصول، وأنا في غاية دهشتي واستغرابي، أمام المستمعين، لأن ما يحصل هو بين مسلمَيْن!!
استحضرت كل مهاراتي في إدارة المحاضرات والندوات، ومضيت أبرر وأفسر، وأستوعب ما يطرحه، ولكن دون جدوى، بل أنه يزداد هيجانا وعدوانا، ويكرر بأن الذي في القرآن غير صحيح!!
ومن أقواله أن المسيح قد ظهر ونحن أتباعه واسمه كذا !!
قلت: يا أخي أنا لست في صدد أؤمن أو لا أؤمن، أنا أقدم موضوعا مؤكدا في القرآن، ولا علاقة للاعتقاد به، فعنوان المحاضرة "المسيح في القرآن". وأبى أن يستكين، وقوض محاضرتي، وأشعرني بالحرج ، فأتمّمتها بصعوبة، وأنا أرجوه أن يراعي الأصول والأخلاق في هكذا مناسبات، وأبى أن يستجيب وبقي يقاطعني ويقاطعني حتى النهاية!!
وعندما انتهت المحاضرة، وجدته يتقدم نحوي مسعورا وهو يقول: "الاعتقاد لا علاقة له بالمنطق والعقل، وأنا أعتقد بذلك حتى ولو ذكر في القرآن كذا مرة"
قلت: ألا تقرأ القرآن؟
قال: بلى!!
ألا تؤمن بما تقرأ؟
قال: أؤمن بما أؤمن!!
وسألته عن نبيه ودينه، وإذا به يحدثني عن شيء لا أعرفه، وحسبَ محاضرتي ضد نبيه ومعتقده!!
تحيّرت والله وتعجبت منه، ولا أدري كيف أجده يصلح للتعامل مع البشر بسلام، فهو ينكر وجودك وينقلب إلى مخلوق عدواني شرس، لا يعنيه أي شيء، ولا يهمه ما يسفر عنه سلوكه العنيد، المهم بالنسبة له التعبير عن اعتقاده والتمسك به بقوة مطلقة لا تقبل الحوار، ويحسبك عدوه حال محاولتك محاججته أو معرفة ما يراه.
هذا مسلم يصلي كما أصلي ويصوم ويقرأ القرآن ويحج، لكنه يعتقد بشيء آخر مغاير تماما وعنده نبي!!!
لقد لقنني درسا كبيرا، فقررت منذ تلك المحاضرة أن لا أتطرق لأي موضوع ديني، واعتذرت عن الكثير من الدعوات التي تطلب مني الحديث في موضوعات لها علاقة بالدين.
فليعتقد الناس بما يعتقدون، ويؤمنون بما يؤمنون، فهذا شأنهم لوحدهم، ولا علاقة لنا بما فيهم لا من قريب ولا من بعيد، المهم أنهم يعبرون عن آدميتهم ويُظهرون سلوكهم الإنساني المعاصر، الذي يحقق المصالح الوطنية والاجتماعية المشتركة.
وكلما أتأمل الأحزاب الدينية المحشورة بالديمقراطية، تحضر هذه الحادثة أمامي، فأقرأ الفاتحة عليها، لأن جميعها مثل الأخ الذي أحرجني وبوقاحة غير معهودة!!
فارحموا الديمقراطية يرحمكم الله!!
واقرأ أيضاً:
الغِنى بالسرقة مَهلكة!! / الرأس المخلوع!! / الدين بين اللسان والقلب والسلوك!! / ومن العرب أبواق آكليهم!! / الرأي رأيهم؟!!