للكراسي إرادة لا تُقاوَم، وقوة لا تُضاهى، وقدرة فائقة على الامتلاك والاستعباد، لأن الكراسي ترمز للسيطرة والاستعلائية والإطلاقية.
والمقصود بالكراسي المناصب بأنواعها من مدير أصغر دائرة في الدولة إلى أعلى منصب فيها، فحالما يجلس الشخص على الكرسي المناط بمسؤولية ما، تجده قد تغير تماما وأذعن لإملاءاته وأصبح عبدا له ومأسورا بين يديه.
ولهذا لا يوجد - إلا فيما قل وندر - شخص أو حزب أو فئة أو دين أو أي توصيف آخر، تمكن من الجلوس على كرسي المسؤولية وبقي على حاله السابق، خلقا وسلوكا، وإنما ستكتشفون بأنه شخص أو حزب أو دين لا تعرفونه، وستندهشون مما سيبدر منه وسيقوم به.
ونزولا عند إرادة الكرسي، حارب معظم الأشخاص أنفسهم وأظهروا غير ما تعارف الناس عليه فيهم، وتقاطعت الأحزاب مع عقائدها وشعاراتها ومنطلقاتها النظرية، أما الأحزاب المدعية بدين فإنها تقضي على دينها.
ذلك أن الكرسي يمثل سلطة، ويعبّر عن هيمنة قوة، وهذا يعني أن الذي يجلس عليه لابد له أن يتخلق بأخلاقه الغابية الطباع والنوايا والتطلعات، ويكون وحشا ضروسا جشعا مارقا للقوانين والأعراف والتقاليد، ومتأسدا على سوح وغاه، وربوع حماه.
ولو تدارستم سلوك أية حالة فردية، حزبية، فئوية، دينية وغيرها، وقارنتم بين ما كانت عليه قبل الجلوس على كرسي المسؤولية وما بعدها، لتبين لكم البون الشاسع، والتناقض الفاضح الصارخ.
ومن أمثلة التأريخ الواضحة، أن عبد الملك بن مروان كان فقيها ومتبحرا بالقرآن، ويمكن وصفه بالورع والتقي، لكنه حالما أخبِرَ بأنه صار في موقع المسؤولية الأول، قالها بوضوح مخاطبا القرآن الذي كان بين يديه هذا بيني وبينك"!!
ومعنى كلامه أن للكرسي أحكامه وموجباته ولا يمكن التعبير عما كنت عليه معك وأنا أجلس على الكرسي، وكان صادقا في قوله، وما قام به لا يتفق إطلاقا مع ما كان معروفا عنه قبل توليه السلطة.
وعلى هذا المنوال، الذي يتسنم أي مسؤولية في السلطة، يقطع علاقته بذاته وموضوعه، ويجسد إرادة الكرسي.
والعجيب في أمر الكرسي أن الذين ينتصرون عليه يُقتلون، والمثال على ذلك "عمر بن عبد العزيز" وغيره من الولاة والسلاطين الذين ما أن حاولوا إذعان الكرسي لإرادتهم حتى أطيح بهم.
وهذه الإرادة القاهرة للكرسي معروفة منذ القِدم، وقد تمكنت بعض المجتمعات المعاصرة من لجمها وإخضاعها للمراقبة والمتابعة الدقيقة، فما أن يجلس الشخص فيها على الكرسي حتى تكون له بالمرصاد، وبهذا تحافظ المجتمعات على قوتها وتماسكها.
أما المجتمعات التي هيمنت عليها إرادات الكراسي المنفلتة، فإنها تعاني من ويلات الفساد والخراب والدمار، وتشيع فيها رزاءة الأحوال.
فهل من رقيب شديد على الكراسي لقمع إرادتها النكراء، ولجم جماحها المدجج بالأهواء؟!!
واقرأ أيضاً:
السودان والبركان!! / أين " الله أعلم"؟!! / هل أن الأمة في أرذل العمر؟!! / أقلام للإيجار!! / التناسي هو العدوان!! / الروادع والسلوك!!