الأديان والمعتقدات بأنواعها حالما تُبذَر في الوعي الجمعي البشري، فإنها تنبت وتتسامق كالأشجار فيكون لها أغصان وفروع وتسعى للانتشار فتصنعَ الغابات والمروج من نسلها، وهذه إرادة الحياة وديدن البقاء والنماء والتواصل والانتشار. ولا يوجد أي مسمى على هذه الشاكلة دون تفرعات وانشطارات وتفاعلات اختلافية وتواشجات وامتدادات وانسحابات، إذ لا يمكن البقاء على حالة واحدة فوق أرض دائبة الدوران، وفي كل دورة لها تطلعات وتبدلات محكومة بقوانين ومعادلات.
في الواقع الأرضي يؤكد وجوب التبدل والتغير والتشعب والاختلاف والتواصل والتبادل والتزاوج، ولا يقبل بالتطابق والتوافق العاجز عن الإنجاب والتفاعل مع المستجدات الزمانية والمكانية، فالأرض بدورانها تمزج وتعزل وتشذب وتأتي بما هو مولود من أرحام العناصر التي يخلّقها الدوران. والقول بأفضلية مذهب على مذهب أو مدرسة على أخرى فيه اضطراب، لأنها جميعا وبلا استثناء محاولات نظر وليست كل النظر، وزوايا تفسير وليست كل التفسير، فهي باختصار معرفي نسبية الاقتراب ومحدودة الوعي والإدراك.
وجميعها تتخذ مسلك الترسيخ والتعزيز بالتكرار والتمجيد والإطراء، وتجريد رموزها من بشريتهم وإضفاء توصيفات وقدرات خارقة عليهم، لكي تتوهم الأجيال وتنغمس بأوهامها وما تمليه عليها التعزيزات الانفعالية والتصورات العاطفية. وينجم عن هذا السلوك ما نسميه بالتمذهب أي التمترس المشحون بالعواطف الحامية المتأججة التي لا تسمح للتفاعل والتواصل مع الآخر، وتشيّد تصورات وأحكام مسبقة وتعميمية تجاه أي متسائل أو مشكك بما تطرحه الرؤية المحمومة والخندقة المشؤومة التي تقضي على مذهبها، والذي بموجب ما فيها تحسبه دينا ومنتهى الحقيقة واليقين، وبهذا يكون التمذهب قوة تدميرية للمذهب والدين.
ولهذا فإن التمذهب يعني الذهاب، أي تغييب المذهب والدين، وتحولهما إلى مواقف عدوانية مناهضة للحياة والقوة والاقتدار والتواصل الإنمائي الصالح لمسيرة المجتمع والأجيال. ويبدو أن أعداء الدين والمذاهب يدركون هذه المآلات التدميرية، فيساهمون بتقوية حالات التمذهب وإضعاف المذاهب ومنعها من استنشاق عبق الدين النقي الطاهر الرحيم، وبهذا يعدون الأجيال للسقوط في جحيمات سقرية يصبون عليها بنزين العواطف والانفعالات، الكفيلة بإدامة لهيبها وتحويل الوجود إلى رماد.
ولكي تكون المذاهب قوة إيجابية وإرادة دينية بنّاءة عليها أن تعود إلى جوهر ذاتها وتعرف دينها وتعتصم بحبل ربها المتين.
فاحترم مذهبك ولا تتمذهب!!
واقرأ أيضاً:
وداوي السياسة بالسياسة!! / المعرفة والتحريف!! / "الله أعلم" و"أنا أعلم"!! / التأريخ يوجعنا!! / البرمجة الدماغية الخبيثة!!