سقوط بغداد على يد المغول بقيادة هولاكو لا تزال لغزا محيرا، لأن الدولة العباسية كانت قوية عدة وعددا، ولم تكن ضعيفة ماديا وعسكريا كما يُشاع ويُدّعى، فهي دولة ذات خبرات طويلة متوارثة متراكمة وقادة أشداء محنكين وذوي قدرات عسكرية فذة، ولم تكن الدولة سهلة على المعتدين، ولا بغداد بيسيرة السقوط والدخول والاحتراق.
لكن المشكلة أن الخليفة العباسي لم يكن صاحب إرادة بحجم الدولة والمسؤولية الملقاة على عاتقه، فتخاذل وتهاون وتكاسل، وما احتاط ولا عزم ولا تحدى ولا استبسل، وإنما توهم الصلح والسلام وتجنيب البلاد والعباد الحرب، وكان قد ارتكب خطيئة مروعة واتخذ قرارا انتحاريا، فحصل الذي حصل، رغم كل ما يُقال ويأتي به المبررون والمحللون والمعللون. فالعيب كان في الخليفة لا بغيره، وقد عكس ضعفه وخذلانه على الناس من حوله، فما أشاع في نفوسهم غير مشاعر الهزيمة والخوف والرعب والاستسلام، وما امتشق سيف التحدي والمبارزة والعمل بإرادة الإيمان والذود عن الحياض بصولة همام. إذ كانت قوة وعدة الخليفة في بغداد أعظم بمرات من قدرات "قطز" في مصر، الذي كان يواجه صعوبات وتحديات متنوعة، لكن إرادته وبسالته وروحه المؤمنة المطمئنة كانت أعظم وأحزم وأعزم، فما استسلم وإنما تحدى وأقدم.
وهولاكو خان، (1217-1265)، وفترة حكمه (1256-1265)، وتحت قيادته اجتاح المنغوليون بغداد عاصمة الخلافة العباسية، بعد حصارها وقتل المستعصم بالله آخر خليفة عباسي في يوم الثامن من شهر شباط عام 1258، فسقطت عاصمة الدنيا على مدى خمسة قرون. وما كان هولاكو قويا كما يُشاع أيضا وإنما طائشا ومندفعا ومتوهما بالقوة والاقتدار، ومعه الكثير من الخونة العرب أو الذين يجيدون العربية، والذين حرروا له رسائل لتفتيت الإرادة وزعزعة روح المقاومة والاستبسال، فكان ينتصر برسائله وإشاعاته وحروبه النفسية التي تسبقه كالعواصف والأعاصير، فينخدع الناس ويصيبهم الذعر فيتمكن منهم ويفتك بهم.
وهذه الأساليب لم تمرر أو تنطلي على ملك مصر آنذاك وإنما قوبلت بقوة نفسية ظافرة وإرادة قاهرة وطاقة إيمان عامرة وعزيمة وافرة وحنكة قيادية ماهرة، ولهذا في معركة (عين جالوت) يوم (14-8-1260) (15 رمضان 658)، تحقق الانتصار وهزيمة التتار وإبادتهم عن بكرة أبيهم، بقيادة الملك المظفر سيف الدين قطز المعزي، الذي تم اغتياله في (23-10-1260)، بعد خمسين يوما من انتصاره المبين، وقد حكم لأقل من سنة، أنجز فيها انتصارا غيّر مسيرة تأريخ البشرية، وكان نداؤه "وا إسلاماه...يا ألله يا جبار أنصر عبدك قطز على التتار".
وهذه ظاهرة عربية غريبة أن يقتل العرب قادتهم الأفذاذ ويرعون قادتهم الضعفاء الممعنين باللذائذ والفساد، لأنهم أفيد للحاشية من القادة العظماء. وصرخة "وا إسلاماه" المعبَّر عنها بالفعل الواعي والإدراك الحضاري السامي، انتصرت على الإرادة الهولاكية، ودحرت أحلامها وشتتها فتداعت وانهزمت، وتحوّل ابن هولاكو إلى الإسلام بعد وفاة أبيه، وحُمِلت رايات الإسلام إلى أرجاء الأرض الشاسعة.
والهولاكية تبدو وكأنها ظاهرة تتكرر في هذا الزمان وفقا لمعطياته وما فيه من مفردات تقنية واتصالية ومعلوماتية. وما يجري في المنطقة بأسرها ما هو إلا توجهات هولاكية تدميرية انتحارية، بقيادة الهولاكيين القادمين من كل حدب وصوب، والممولين بقدرات الشر وضلالات النفوس الأمارة بالسوء، التي انطلقت فأسقطت بغداد، وأحرقتها وأحالتها إلى خراب. وكما هزم قطز بإرادته وإبائه الهولاكية القديمة، فإن قدَرَنا أن نهزم الهولاكية الجديدة، التي تريد اجتياح المنطقة بأكملها، وأمتنا لقادرة حتما على القضاء على هولاكية الزمن المدلهم بالويلات.
هذه الهولاكية الجديدة ذات نهج عقائدي أعمى خطير يسعى إلى إبادة الدين بالدين، والانتقام لموروثات أحقاد سحيقة غائرة في متاهات العصور. فالزمن العنيف صار يحتشد بالهولاكيين، الذين إذا قارنتَ بهم الطغاة والمستبدين، لتبين بأنهم كالمَلاك الرحيم!
وثقة الأمة قوية وراسخة بأن الهولاكية المعاصرة سيتم هزيمتها بقائد ستنجبه وسينطلق بها، وتمضي تحت رايته في إعلاء صوت الحق لدحر إرادة الباطل والفساد، وهذا القائد عليه أن ينادي "وا أمّتاه"، لكي يعيد للأمة كرامتها ويضعها على سكة الطريق الحضاري المنير.
فاستحضروا إرادة "وا" وكونوا ببعضكم أفذاذا لا أندادا يا عرب!!
واقرأ أيضاً:
البرمجة الدماغية الخبيثة!! / تمَذْهَبْ لتذهَبْ!! / يوم احتراق بغداد!! / اعرف طريقك!! / طبائع المدن ومصير الأوطان / العربية والقرآن! / الجسور والتفاعل النفسي!!