يبدو لي كلما تأملت السلوك البشري، أن العقل اختراع سرابي تضليلي، ذلك أن الذي يقود السلوك هي طاقات النفوس الهوجاء التي تسخر ما في البشر لتحقيق إراداتها. فالنفوس هي القائدة الرائدة المتسلطة المستبدة المهيمنة على التفاعلات البشرية كافة، ولا يمكن الإقرار بوجود العقل المجرد أو الفاعل في السلوك، ذلك أن أي سلوك هو من إنتاج آلات أخرى تنكر العقل.
التأريخ يحدثنا بذلك، ومسيرة البشر الوحشية الغابية على مرّ آلاف القرون، تقدم لنا الأدلة الدامغة على معطيات تفاعلاتنا، التي تؤكد بأنها أقسى من أي تفاعلات تحصل ما بين المخلوقات الأخرى الجامدة والحية. فلماذا البشر معبّأ بالوحشية الشرسة ويدّعي العكس قولا؟!!
فهل إن الإنسانية والعدل والسلام والرحمة مخترعات مخادعة للوصول إلى غايات نفسية دفينة في خفايا الأعماق البشرية، التي تزأر فيها أشرس الوحوش الكونية، حتى لتبدو الوحوش الأرضية، بالمقارنة بها، كالحمل الوديع. فنحن نبتكر ما ليس فينا، وفقا لآليات تزويرية تضليلية تساهم في صناعة المآسي والخطايا والآثام، وتنجز مشاريع الفظائع والبشائع المروعة.
فالبشرية سخرت كل شيئ لسفك الدماء والدمار والخراب، ولا يوجد أي شيئ في الأرض لم يُستخدم كوسيلة للقتل والدمار، وتأتي في مقدمة ذلك العقائد والأديان، التي حصدت من البشر آلاف الملايين عبر العصور، وخربت وأحرقت وهتكت واستعبدت وصادرت ومحقت، وفي عصرنا المتوحش التكنولوجي الطباع، توفرت لدينا قدرات ذات محق شامل، فكل منتجات التكنولوجية قاتلة ومدمرة برغم ما تبدو عليه بأنها غير ذلك!!
فهل عندنا عقل بمعانيه الإدراكية المتوازنة الخالية من نوايا القضاء على الآخر؟
الذي ينظر الواقع العولمي يكتشف بسطوع، أن إرادة القتل والدمار والامتلاك هي السائدة، وأن الدول والقوى وغيرها، عبارة عن إرادات شرسة متأهبة للفتك والبطش والسيطرة على الآخر، الذي عليها أن تأكله وتهضمه، فتعيد تحرير ما فيه من طاقات لتمكينها من التواصل الأعنف، حتى يتيسر مَن لديه القدرة على افتراسها، وهكذا دواليك وحتى في مجتمعات الأكوان السحيقة.
ويبدو أن الطاقة الأرضية محدودة ولا تمتلك إلا خيار إعادة تصنيع ذاتها، ولكي يتحقق ذلك لا بد من انتفاء العقل، وفرض إرادات النفوس لأنها انعكاسات صادقة للتعبير عن الطاقة الأرضية المادية الخواص والطباع، فالطاقة تتحول إلى حالات كالماء، ويمكنها أن تكون موجودة بأشكال متنوعة ومطلقة عليها أن تعود إلى جوهرها المبدع، لكي تتواصل دورة الوجود الكوني في الأرض السكرى بصهباء الدوران!!!
أو أن الذي نسميه عقلا، هو قانون الأرض التي تخضع لقوى الجذب وصيرورات الدوران، التي تملي عليها الديمومة في شرنقة الأبد المتحرك في مجهول لا يُعرف مبتدأه ولا خبره، وإنما يصنّع مسيرته اليومية وهو في حالة غثيانية محفوفة بالهلع والمخاطر، التي تفرض سلوكيات مجردة من المشاعر والأحاسيس، وإنما هي انسحاقات دائبة تحت سنابك عجلات الدوران المدوي في أعماق كل موجود ينتسب للتراب.
فهل عندنا عقل فاعل أم نحن اختلقنا عقلا مزيفا؟!!
وأين مكان العقل فينا؟!!
واقرأ أيضاً:
تمَذْهَبْ لتذهَبْ!! / يوم احتراق بغداد!! / اعرف طريقك!! / طبائع المدن ومصير الأوطان / العربية والقرآن! / الجسور والتفاعل النفسي!! / انبثاق الأمة بإرادة قطز!!