وسواس الشك التحقق القهري و.ش.ت.ق : مقدمة
رغم أن طقوس التحقق هي شكل من أشكال السلوك الوقائي الطبيعي بالأساس إلا أن ارتباطها بالتردد والشك يظهر جليا في حالات و.ش.ت.ق خاصة المعنية بمنع الأخطار المستقبلية أو الأخطاء الدينية، وإن كان كل من التردد والشك يظهر أيضًا في حالات و.ش.ت.ق بغض النظر عن المحتوى، ولكن دائما تزيد احتمالات حدوث التحقق القهري عندما يكون الشخص الذي يعتقد أن عليه مسؤولية خاصة مرتفعة للوقاية من الأذى وتحاشيه، وبشكل رئيسي للآخرين، غير متأكد من أنه قد تم تقليل التهديد المتصور أو إزالته. فيتأكد مرارا من أن كل شيء آمن. وتتحدد آلية ومدة وعدد مرات التحقق من خلال الشعور بالمسؤولية واحتمالية الضرر والخطورة الجدية المتوقعة للضرر.. ولما كان من النادر أن يمكن تحقيق اليقين بأن سوءًا مستقبلياً مستبعد تماماً، خاصة وأن معظم المصائب المتوقعة مبهمة، فإن سلوك التحقق ليست له أي نهاية طبيعية. لذا يجب أن يستمر التحقق؛ ومهما استمر تكراره فإنه يبقى غير مكتمل، وبالتالي بدلا من أن يؤدي التحقق والتفحص إلى الاطمئنان فإنه يؤدي إلى مزيد من عدم الاطمئنان، ويرى راتشمان (Rachman, 2002) أن ذلك بسبب تفعيل آلية ذاتية التنشيط تتكون من أربعة أبعاد هي أولا، عجز الفرد عن الوصول بشكل فعال إلى درجة من اليقين من أن احتمال وقوع الضرر لنفسه أو غيره قد انخفض بشكل كاف أو أزيل، ثانيا، يؤدي تكرار التفحص في الواقع إلى تشويه ذاكرة الفرد للمهمة التي يقوم بها بحيث يؤدي إلى الحد من ثقة الفرد في ذاكرته أنه أدى التحقق بنجاح. بل إنه كلما زادت مرات التحقق/التفحص قلت الثقة في الذاكرة، ثالثا، وجود التحيز المعرفي أن احتمال وقوع الضرر يكون أكبر عندما يكون هو المنوط بالمسؤولية (على سبيل المثال عندما يكون آخر من يخرج من المنزل أو آخر من ينام)، وأخيرا، يجد الفرد زيادة في إحساسه بالمسؤولية الشخصية بعد أن يكون قد أكمل التدقيق والتحقق.
وبالتالي لابد من التعلم عن بعض الأبعاد المعرفية المهمة دراستها في حالات و.ش.ت.ق وهي التقويم المفرط للخطر ولا تحمُّل الشك، وفرط الشعور بالمسؤولية، وعدم الشعور باكتمال الفعل فضلا عن عدم الثقة في الذاكرة وهو جزء من فكرة الإنسان عن ذاكرته أي أنه جزء مما يسمى وراء الذاكرة، وأفكار الإنسان عن أفكاره كذلك هي جزء من ما وراء المعرفة وسنفرد هذا المقال والتالي لبيان دور الأبعاد المعرفية أو وراء المعرفية المهمة مع مرضى و.ش.ت.ق.
1. تهويل التهديد أو التقويم المفرط للخطر Over-Estimation of Threat :
يعدُّ التقويم المفرط للخطر واحدًا من أهم السمات المعرفية المهيئة للتحقق القهري، وليس هذا التحيز المعرفي خاصا بمرضى و.ش.ت.ق لأنه من أهم السمات المعرفية الشائعة في مرضى اضطرابات القلق عامَّة، فنجد مريض أيٍّ من اضطرابات القلق يدرك خطرًا مبالغًا فيه تجاه مواقف أو أحداث هي في الواقع أقلُّ خطرًا بكثير مما يُدرك (Beck et al., 1985)، وعملية تقويم الخطر أو التهديد المحتوى في مثير أو حدث معين هي عملية معقَّدة، تشمل تفاعل عدة متغيرات؛ هي: الاحتمالية المدركة للخطر، إضافة إلى التكلفة المدركة للخطر من قِبل الشخص، مقابل القدرة المدركة على المجابهة، والقَدْر المُدْرَك من المساعدة المتاحة من قِبل الشخص أيضًا؛ أي أن معادلة القلق تكون كما يلي:
الاحتمالية المدركة للخطر × التكلفة المدركة للخطر من قِبل الشخص
الخطر = ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
القدرة المدركة على المجابهة × القدر المدرك من المساعدة المتاحة
ويصبح الشخص قلقًا إذا أفرط في تقويم الصفِّ العلوي في هذه المعادلة، أو قلَّل من تقويمه للصف السفلي، وفي اضطراب وسواس الشك التحقق القهري بخاصَّة نجد المريض يبالغ كثيرًا في تقدير احتمالات الخطر والعواقب المترتبة على عدم التحقق، أو على عدم الأداء بأقصى درجة ممكنة من الكمالية والانضباط، فمثلاً قد يعتقد مريض الوسواس القهري أن احتمال فصله من عمله مرتفعة جدًّا، وأنه إذا أخطأ أيَّ خطأ في العمل -مهما كان صغيرًا- فإنه سيُطرد من وظيفته وينخرط بالتالي في قهور التحقق وتكرار التحقق، ويساعد التقويم المفرط للخطر في دفع الموسوس للاستمرار في أفعاله القهرية من خلال دفعه إلى التدقيق المفرط أو إلى أي أشكال أخرى من السلوك التكراري (كتكرار التحقق أو غسل اليدين أو تحليل الدم) لدرء خطر مخشيٍّ.
ومريض الوسواس القهري لا يُفْرِط في تضخيمِ خطرِ أمرٍ ما فقط، وإنما أيضًا يُفرِط في تقليل قدرته على التعامل مع ذلك الخطر، فمثلاً إذا كان لديها خوف من أن تكون نسيت موقد الغاز مشعلا، وبينما هي على وشك الصعود إلى الشقة في الطابق الثالث للتحقق رأت دخانا واضح المصدر من جار يدخن في شرفة الطابق الثاني؛ فستعتقد على الفور أنه دخان الحريق في شقتها، وأنها لن تتمكن من فعل شيء لحماية شقتها من الحريق، وبالتالي نجد أن مرضى الوسواس القهري:
- دائما يضعون احتمالية أكبر للخطر وللوقوع في الخطأ.
- بالنسبة لهم كل الأحداث والمواقف خطرة إلى أن يثبت العكس!
- يفكِّر الواحد منهم بهذه الصورة: الأشياء السيئة محتملة الحدوث دائمًا لي؛ العدوى تنتظر دائمًا لتحدث لي؛ الأخطار المخفية تترصَّدني في كلِّ مكان، معنى تغيُّر لون الجلد سرطان... إلخ.
ويمكننا تسمية هذه الطريقة في التفكير والقياس والاستنتاج بـ"التفكير الكارثي" Catastrophizing أو "التشاؤمي" Pessimistic
2. لا تحمُّل الـ"لا يقين" أو الـ"لا تأكُّد" أو الشكِّ (الحاجة للتأكُّد 100%):
ليس من الصعب فهم العلاقة بين سِمَتَيْ: الشكِّ المرضي Pathological Doubt؛ وهو أحد أهمِّ علامات اضطراب الوسواس القهري، وعدم القدرة على تحمُّل الـ"لا تأكد" أو الشكِّ Intolerance of Uncertainty أو الحاجة للتأكُّد 100% Need For Certainty وتفاعلهما معًا، حيث يمثِّل لا تحمُّل الـ"لا تأكد" وقودًا مستمرًّا للقهور بشكل عامٍّ، وبشكل خاصٍّ أفعال التكرار والتفحُّص وطلب الطمأنة المتكرِّر... إلخ، فلا تحمُّل الـ"لا تأكد" أو الشكِّ وطلبُ التأكُّد 100% هو المسؤول عن كثير من القهور من نوع التفحُّص والتكرار؛ ولذلك نجد في الموسوسين قناعات مثل:
- يجب أن أكون متأكِّدًا 100% بأنني نفَّذت الأشياء بشكل صحيح.
- الصواب المقبول = 100% أمان (الوضوء المقبول = 100% طهارة)!
- إذا لم أتأكَّد 100% لن أكون قادرًا على عدم إعادة الصلاة... إلخ.
ويعاني مرضى الوسواس القهري من الشكِّ المرضيِّ في خواصِّ: الخبرة الحسيَّة، والمثيرات، والمواقف، والأماكن، والأفعال، والذاكرة؛ فمثلاً: نجد من يشكُّ في غسل يديه أو وجهه وهو قد غسلهما للتوِّ أثناء الوضوء، ومن يشكُّ في أنه نسي المفتاح في الباب بالرغم من أن المفتاح معه، لكنه يصوِّر قفل الباب بكاميرا المحمول قبل مغادرة المنزل؛ ليؤكِّد لنفسه أنه لم ينس المفتاح في القفل! إلا أن الشكَّ المرضيَّ يظهر أيضًا في اضطرابات القلق واضطرابات الشخصية.
وبشكل عامٍّ فإن لا تحمُّل الـ"لا تأكُّد" أو لا تحمل الشك الوسواسي (والذي يمكننا اختصاره بـ "ل.ش") هو سمة معرفية يمكننا تعريفها بأنها: "عدم القدرة على تقبُّل احتمال أنَّ الأحداث السلبية قد تحدث في المستقبل؛ مهما كان ذلك الاحتمال ضعيفًا من الناحية الواقعية"، ويعرِّفها بعضهم بأنها: "الميل المفرط من جانب الشخص لتوقُّع حدوث حدث سيئ أو خطأ ما غير مقبول، دون اعتبار للاحتمالية الواقعية لحدوث ذلك الحدث، ودون قدرة على الاطمئنان بالرغم من اتخاذ كلِّ الاحتياطات المعقولة لمنع الخطأ أو الحدث السلبي"، ونجد قناعات لدى ذلك الشخص مثل: أن الـ"لا تأكُّد" (أو الشك) حالة مُعِيقة وغير مقبولة، وأنها تمنع الأداء المثالي لأيِّ عمل... إلخ، وهو ما يجعل الموسوس يكافح كفاحًا شديدًا في محاولة للوصول إلى التأكد 100%؛ فلا هو يصل، ولا هو يكفُّ عن المحاولة وتكرارها! وممَّا يعقِّد الأمر أن الانخراط في السلوك القهري أو الطقوس من المرجَّح أن يخفِّض من حدَّة الضيق المرتبط بالـ"لا تأكُّد"، وهو ما من شأنه أن يعزِّز الرغبة في الانخراط في مثل هذه السلوكيات مرَّة أخرى في المستقبل (Holaway, et al, 2006)، وبسبب لا تحمُّل الـ"لا تأكُّد" أيضًا يعاني الموسوس من صعوبة اتخاذ القرارات، وصعوبة الاستدلال معرفيًّا، فالموسوس قد يأخذ وقتًا أطول لتصنيف المعلومات، وهو يريد في أغلب الأحيان التأكُّد من كلِّ معلومة، والتأكيد على فعله ذلك (Foa & Wilson, 2001)، وهو أيضًا يحتاج لكلِّ ذلك قبل أن يقرِّر، وبالتالي يضطرَّ إلى المماطلة والتسويف Procrastination وتسبِّب هذه السمة للموسوس معضلة إدراكية؛ بخاصَّة عندما تقابله الأسئلة التي ليس لها جواب مؤكَّد؛ مثل: "هل سأصاب بالإيدز؟"، أو "هل تبديل الكلية صحيح؟".
ومن الناحية النظرية فإن لا تحمُّل الـ"لا تأكُّد" لا يؤدِّي بالموسوس إلى اللجوء إلى قهورات التحقُّق والتكرار للتأكيد أو طلب الطمأنة وحسب؛ وإنما يمثِّل لا تحمُّل الـ"لا تأكُّد" أيضًا عامل إدامة للسلوك القهري، لأنه يؤدي بالمريض إلى الشكِّ فيما إذا كان قد أدى المهمة بنجاح أو على نحو كافٍ؛ مثلاً: قد يشكُّ المريض فيما إذا كان قد غسل يديه بشكل كافٍ، أو يشكُّ ما إذا كان قد أغلق صمام الغاز، أو قفل الباب تمامًا، ووفقًا لهذا المنظور النظري فإن المستويات العالية من لا تحمُّل اللايقين أو الـ"لا تأكُّد" عند مرضى الوسواس؛ تجعلهم غير قادرين على التعامل مع هذا الشكِّ أو الـ"لا تأكُّد" من مستوى أدائهم؛ ونتيجة لذلك يشعر المريض بأنه مضطر للمواصلة مع السلوك القهري أو التحقُّق لضمان أنه فعل المهمَّة بنجاح أو على نحو كافٍ (Beech & Liddell, 1974).
وبالرغم من وجود علاقة مباشرة للا تحمُّل الـ"لا تأكُّد" بأعراض الوسواس القهري؛ وبخاصَّة المتمثلة في قهور التحقُّق والتكرار وطلب الطمأنة؛ إلا أنه ليس سمة فارقة في اضطراب الوسواس القهري، إذ إن له أيضًا علاقة بنشوء اضطراب القلق المُعمِّم، كما أن له علاقة بالتقويم المفرط للخطر؛ من خلال الميل لتوقُّع الأسوأ في حال عدم التأكُّد 100%، وله كذلك علاقة باضطراب "الرُّهاب الاجتماعي" (Boelen & Reijntjes, 2009)، مثلما له علاقة بحالات اضطراب قلق المرض أو وسواس المرض.
3- فرط الشعور بالمسؤولية المسؤولية المتضخمة :
فكرة أن تقييم الشخص لمقدار مسؤوليته يلعب دوراً مهماً في سلوك التحقق القهري هي الآن فكرة مدعومة بمجموعة كبيرة من المقاييس النفسية والدراسات التجريبية، وكانت البداية حين كتب سالكوسكيس Salkovskis سنة 1985 أن التفكير الوسواسي هو المثال التوضيحي الأساسي للاضطراب المعرفي في العصاب Neuroses (الاضطرابات العصابية أي كل أنواع القلق والرهاب)، ثم اقترح أنه في حالة الوسواس القهري تدور هذه الأفكار "حول المسؤولية الشخصية، وأن حدوث خطأ ما يعني إخفاق الشخص في منع حدوثه" ثم ذهب إلى القول بأن العامل الرئيسي في الوسواس القهري هو اعتقاد الشخص المتضخم في مسؤوليته عن منع الأذى الجسيم للآخرين أو النفس، (Salkovskis, 1985) وما يزيد الطين بلة هو أن الشخص يميل إلى إدراك حدوث الأفكار الوسواسية كدليل على أهميتها وجدية التهديد بالتالي. ... وفي حالات الوسواس القهري المزمنة كثيرا ما تسمع من المريض تعبيرات تشير إلى إحساسه المفرط بالمسؤولية بشكل قد لا يخطر بالبال فإذا أرادت فتاة موسوسة مثلا نقل أمر من والدتها إلى إحدى أخواتها فإنها لا تقول لأختها تقول أمي كذا وإنما تقول أظن أن أمي قالت لي كذا لأقوله لك..
ويميل الموسوسون عادة لتقديم أكثر التفسيرات سلبية للأفكار الوسواسية، وبعض القناعات القبلية المتعلِّقة بالمسؤولية قد تكون أساسًا لمثل هذه الاتجاهات، فمثلاً: وجود قناعة مثل: "أن الفشل في منع وقوع ضرر لشخص ما يتساوى مع التسبُّب في الضرر لهذا الشخص"، أو: "إذا لم أفعل كلَّ ما يجب فعله لدرء الخطر كلما أتوقُّع خطرًا؛ سأكون الملام على أيِّ نتائج سيئة".. وهو ما يسمى انعدام التحيز الإغفالي Omission Bias (والتحيز الإغفالي هو الميل إلى الحكم على الأفعال الضارة بأنها أسوأ، أو أقل أخلاقيًا من اللاأفعال الضارة بنفس القدر (الإهمال) لأن الأفعال تكون أكثر وضوحا من عدم الفعل....) هذا التحيز المعتاد إنسانيا ليس موجودا لديهم لأنهم يحاسبون أنفسهم عدم الفعل المانع للضرر مثل حسابهم أنفسهم على التسبب فيه. ، ومثل هذه القناعة تؤدِّي إلى أن يتصرَّف المريض بتأنٍ مفرط، وصولاً إلى أبعد مدى ممكن من الحذر، ومع ذلك فإن الإخفاق في منع ما يعدُّه خطرًا يمكن أن يؤدي به إلى الإسراف في لوم نفسه، ليصبح بعد ذلك أكثر حذرًا، وربما يضع لنفسه معايير أكثر صرامة ليكون على يقين من أنه سينجح في منع وقوع الضرر المخشي، وغالبًا ما يقع مثل هذا الموسوس في براثن التدقيق والتحقُّق المتكرِّر لمنع هذا الضرر، كما أن عدم حدوث ذلك الضرر المخشي يزيد من قناعته بفائدة طريقته تلك؛ فيصبح أكثر تشبثًا بها.
وهناك علاقة بين فرط الشعور بالمسؤولية وفرط تقويم الخطر، والحقيقة أن العلاقة بين المفهومين -فرط توقعات الخطر وفرط الشعور بالمسؤولية- علاقة معقدة؛ بسبب التداخل والتحفيز المتبادل، فكلما زادت توقعات الخطر زاد الشعور بالمسؤولية، والعكس صحيح أيضًا، وقد قام فان أوبن وأرنتز (Van Oppen & Arntz’s, 1994) بشرح العلاقة بين المفهومين كما يلي: "صيغة المعادلة التي عادة ما تُستخدم لحساب المخاطر هي: فرصة الحدوث × عواقب الحدوث، وبالتالي يتعيَّن على المعالج التركيز ليس فقط على المبالغة في تقدير احتمالية حدوث الخطر، ولكن أيضًا على ما يجعل النتيجة مرعبة -أو على الأقل غير مقبولة- بالنسبة للمريض، وعادة يكون لهذا علاقة مع قضية المسؤولية". وكما يبين الرسم أدناه فإن فرط الشعور بلمسؤولية يؤدي إلى تكرار التحقق القهري ويؤديان معا إلى تهويل التهديد بالخطر والذي يزيد من الشعور بالمسؤولية وتكرار التحقق، وتكرار التحقق أيضًا يزيد من تهويل الذنب إذا حدث إخفاق وهو ما يزيد الشعور بلمسؤولية، وإما الإخفاق ولو مرة واحدة في منع الخطر أو الخطأ فإن المريض يهول الذنب ويهول العواقب وكلاهما يزيد من الشعور بالمسؤولية ويدفع إلى تكرار التحقق القهري.
وبصيغة أخرى: فإن فرط الشعور بالمسؤولية يؤثِّر في الوسواس القهري بشكل غير مباشر عن طريق التأثير في تقدير المريض لشدَّة نتائج الحدث أو عواقبه، بدلاً من احتمالية وقوع الحدث أو فرصته، وليس معروفًا على وجه التأكيد ما الذي يتسبَّب في تطور هذا الشعور المفرط بالمسؤولية في مرضى الوسواس القهري، إلا أن هناك عدة احتمالات مفترضة (Salkovskis, et al., 1999): كلها تشير إلى خبرة أو خبراتٍ في الماضي قديما من الطفولة أو لاحقا:
أ. شعور مبكِّر وشامل بالمسؤولية عن درء الخطر أو تفاديه، يشجَّع علنًا أو ضمنيًّا في الطفولة من قِبل الأشخاص ذوي الدلالة والظروف، وهو ما يؤدِّي إلى قناعات قوية ومبرَّرة حول أهمية الشعور بالمسؤولية؛ فمثلاً بعض الأطفال أو المراهقين يجبرون على تحمل مسؤوليات فعلية في سنٍّ مبكِّرة جدًّا نتيجة عجز الأبوين، فيورَّط الطفل في تحمُّل مسؤولية الأشقاء أو حتى الآباء أنفسهم! وفي حالات أخرى يؤدِّي أسلوب التواصل الخاطئ من قِبل الوالدين إلى تكوين قناعة راسخة لدى الطفل أو المراهق بمسؤوليته عن العواقب السلبية التي تحدث حتى وإن لم يكن له سيطرة عليها، وبمعنى آخر: فإن تكرار اتخاذ الطفل أو المراهق كبش فداء يُلام بغض النظر عن مسؤوليته الفعلية عن الحوادث السلبية؛ يكوِّن لديه قناعة راسخة بأنه المسؤول دائمًا عن الأخطاء.
ب. نظام التربية الصارم والواجبات المنضبطة والمتصلِّبة بتطرُّف في الطفولة والمراهقة، وهو ما يؤدي إلى تكوين توجُّهات صلبة تجاه المسؤولية الشخصية، ويمكن أن يتمثَّل في اللوائح السلوكية الصارمة الموضوعة من جانب مصدر محترم أو مصدر موثوق؛ مثل المدرسة ورجال الدين، والتي تؤدِّي إلى تعزيز الشعور بالمسؤولية في بعض الناس.
ج. خبرة طفولية سبَّبت حساسية مفرطة لفكرة المسؤولية؛ نتيجة إبعاد الطفل تمامًا عن حملها من قِبل أبوين عُصابيين، يكونان مفرطا القلق والخوف، وينقلان الشعور بالخطر المُحْدق! مع التأكيد المعلن أو الضمني على أن الطفل لن يستطيع المجابهة، فمثل هذا الطفل تتكوَّن لديه قناعات راسخة كـ"الوقاية خير من العلاج"، أو "من الأفضل أن تكون سالمًا لا آسفا"! أو "ربطُ حمارِك خيرٌ من مطاردته"... إلخ، (Salkovskis, et al., 1999)، كذلك يمكن أن تنتج الحساسية للمسؤولية بسبب فشل الأبوين في حمل المسؤولية أو إعلانهما العجز عن حملها.
د. حادثة معيَّنة أو سلسلة من الحوادث ساهمت فيها الأفعال -أو التقاعس عنها- بشكل مهمٍّ في سوء حظ خطير أثَّر على الشخص، أو في أغلب الأحيان على الآخرين، وفي هذه الحالة تظهر القناعة بالمسؤولية بشكل مفاجئ نوعًا مقارنة بالأمثلة السابقة، والعنصر المهمُّ هنا هو الاعتقاد القوي بالدور الحاسم لما فعله الشخص في تسبيب الحدث السلبي، أو لعدم فعله ما كان يساهم في منعه.
ه. حادثة ظهر فيها بشكل خاطئ أنَّ فكرة و/ أو فعل الشخص -أو عدم فعله- ساهم في حدث مؤسف بشكل يبدو خطيرًا، مثلاً حين يتمنى الطفل المضروب أو يتخيَّل موت أبيه فيتصادف حدوث ذلك؛ فيمكن هنا أن ينشأ الوسواس مبنيًّا على مفهوم القوة السحرية للفكرة أو التخيُّل، أو ينشأ الوسواس مبنيًّا على أنه لم يحذِّر أباه... إلخ.
المراجع :
1- Beck, A. T., Emery, G., & Greenberg, R. L. (1985). Anxiety disorders and phobias: a cognitive perspective. New York: Basic Books Inc. Publishers.
2- Holaway, R. H, Heimberg, G. H., Coles, M. E. (2006). A comparison of intolerance of uncertainty in analogue obsessive-compulsive disorder and generalized anxiety disorder. Anxiety Disorders, 20, 158–174.
3- Foa, E., Wilson, R. (2001).Stop Obsessing: How to Overcome Your Obsessions and Compulsions. Bantam Books: New York.
4- Beech, H. R., & Liddell, A. (1974). Decision-making, mood states and ritualistic behaviour among obsessional patients. In H. R. Beech (ed.), Obsessional States (pp. 143-160). London: Methuen.
5- Boelen P.A & Reijntjes A (2009). Intolerance of uncertainty and social anxiety. Journal of Anxiety Disorders 23 (2009) 130–135
6- Salkovskis, P. M. (1985). Obsessional–compulsive problems: a cognitive-behavioral analysis. Behaviour Research and Therapy, 23, 571–583.
7- Van Oppen, P., & Arntz, A. (1994). Cognitive therapy for obsessive-compulsive disorder. Behavior Research and Therapy, 32, 1, 79-87.
8- Salkovskis PM (1999). Understanding and treating obsessive compulsive disorder. Behaviour Research and Therapy 37,29-52.
7- وائل أبو هندي، رفيف الصباغ، محمد شريف سالم ويوسف مسلم (2016) نحو فهم متكامل للوسواس القهري، البابُ الثالث، الفصل الثاني: بعض السمات المعرفية للموسوسين، سلسلة روافد 138, تصدر عن إدارة الثقافة الإسلامية، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، دولة الكويت
ويتبع >>>>>>>: وسواس الشك التحقق القهري أبعاد معرفية ووراء معرفية2
واقرأ أيضًا:
وسواس النجاسة التطهر التطهير القهري2 / وسواس الطلاق والخلع والزواج