تردني مقالات لمفكرين بارعين ولكتاب ذوي أقلام متمرسة، وما يجمعها أنها مكتوبة بمداد اليأس ومعبرة عن المأساوية ومعززة لها ومبررة، وتمعن في تحليلاتها للوصول إلى أن ما هو قائم تحصيل حاصل لما ذهبوا إليه من اقترابات وتفسيرات، وكأنهم قد افترضوا أنه أمر لازم وراحوا يبحثون عما يؤكد حصوله وتكراره واستفحاله. وبمعنى آخر أن هذه الكتابات تصب الزيت على النار، وتجرد القارئ من إرادة الفعل وتجعله ينزف الأمل ويتمرغ باليأس ويستعذب المآسي والويلات.
ولا يُعرف إن كانت هذه الكتابات مقصودة أو مدفوعة الثمن، أم أنها عفوية وتتوهم بأنها تساهم في حل المشكلة وتنوير الرأي العام، لأنها تبعث على الحيرة والعجب والتساؤل. فما فائدة الكتابات اليأساوية، وما قيمة الدعوة لاستلطاف المآسي والقهر والفقر المدقع والترنم بالوجيع؟!
إن ما تضيفه هذه الكتابات هو المزيد من الآلام والتشويش والانكسار وعدم المبالاة بالدمار والخراب والفساد، وتحاول تجريد المواطن من المسؤولية وتبرر له التبعية والإذعانية والخنوع للآخر أيا كان عنوانه ودوره، فالمهم أن يتحقق الرضا والاستسلام، فما يجري مكتوب ومحتوم، وعلى الناس أن تستعذبه وتأنس به ولا تفكر بسواه. ويبدو أن هذه الكتابات نابعة من مواقف عاطفية انفعالية تستعبد العقل وتجنده لتبرير الحالة النفسية للكاتب والمفكر، أي أنها تعكس ما يعتمل في النفس، وبهذا فهي كتابات غير موضوعية وعاجزة عن بث إرادة التغيير والإقدام في القارئ، وإنما تعزز استعباده وامتهانه، وتوهمه بأن الحياة في اليأس، والفوز بالنعيم يتحقق بالمأساة التي عليه أن يكابدها.
كما أنها تطرح مفاهيم مناهضة لإرادة المكان ومسيرة الزمان، وتدفع الناس إلى الاندفاع نحو الذين يستثمرون باستحضار الماضيات والغابرات، ويمعنون بالتضليل والتنكيل والتحريف والجدل المؤديَن الفعّال الذي يخطف القلوب والأبصار، ويميل للتقديس والتأليه والإيمان بأن بعض البشر نواب خالق الأكوان يتسلطون على رقاب العامة ويمتهنون مصيرهم ويفترسون وجودهم.
ولهذا تجدها عاجزة عن استحضار المستقبل والعمل على تأكيده والعيش فيه، لأن المستقبل أصبح من المحرمات، لأنه يتقاطع مع الغابرات الفاعلات في الوعي الجمعي للناس المضطهدين بالدين، والمأخوذين بالذين يوهمونهم بأنهم يمثلون دين. وهي مقالات تعلن الهزيمة الحقيقية للمثقفين واعترافهم بفشلهم الصريح، لأنهم عجزوا تماما عن صناعة التيار المعرفي القادر على مواجهة تيار احتضار الأمة ودفنها في أجداث الباليات.
فلا عجب من إنثيال هذه المقالات وتسويقها العنيف في المواقع والصحف والكتب والمجلات، لأنها تخدم المرحلة وتؤدي واجب تمرير الصفقات، وكتابها يساهمون في ذلك وكأنهم من المغفلين، الذين يطفئون أنوار العقل بدلا من إيقاد المشاعل، ومطاردة ظلام العصور الجاثم على نهارات الوجود الساطعة!!
فهل من إرادة تفاؤلية بدلا من التراجيديا العارمة البلاء؟!!
واقرأ أيضاً:
نمطية التفكير الخائبة!! / أين العقل يا أمة يعقلون؟!! / الانحشارية!! / مواطنتنا مستقبلنا!! / مَن يتبع يقبع!! / الشعوب المنبطحة!! / الجريمة والسؤال!!