الصحافة عمل مسؤول يهدف إلى تحقيق السلوك الإنساني المتوازن والمقبول من المجتمع لأنه يحقق مصالحه ويبني حاضره ومستقبله. وليس من الصحافة بصلة أي عمل لا يهدف إلى إظهار الحقيقة وتوعية الناس وتسليط الأضواء على ما يراه الصحفي مهم لحياتهم وأمانيهم، فإغفال الحقيقة وطمسها عمل غير وطني لا يحق لمرتكبه أن يتواصل في موقعه، لأن معرفة الحقيقة حق إنساني مشروع لا يمكن التغاضي عنه.
وبسبب تعودنا أو تربيتنا على طمس الحقائق وتزييفها، فإننا نشعر بالخوف والتهديد من أي صحفي يحاول أن يكشف ما هو مستور وكاذب أمام الرأي العام، ويحسبه المسؤول القائم به اعتداء عليه وكراهية له، ويبدأ باستحضار آليات الدفاع من إسقاط وتبرير وغيرها لكي يلوذ بنفسه من سوء عمله، وليؤكد بأنه لم يرتكبه والصحفي يدعي عليه أو يستهدفه.
وهذا السلوك الذي نرى شواهده كل يوم يؤكد أن المسؤول يفعل وكأنه في صومعته وباحة نفسه التي ألغت أي رقيب عليها، وعندما تفاجأ بتسلل الرقيب الصحفي إلى داخل حدودها فإنها تستعيد الرقيب الداخلي وتأخذ بالتحدث بلغته، وكأنها لم تفعل ما فعلت أو ارتكبت من أفاعيل يندى لها جبين الضمير.
ولهذا ترى الكثيرين يرددون التهم الثابتة ضد مَن يقول الحق ويسعى لكشف الحقيقة، فيقولون أن فلان كذا وكذا, لكي يزعزعوا ثقة المجتمع بما كشفه وليحافظوا على ماء وجوههم ويبرروا فسادهم المقيت.
ومسؤولية الصحافة تنطلق من حرصها على ثوابت وطنية واجتماعية ذات قيمة فعالة في ديمومة التواصل والقوة والبناء، ولا يمكن للصحفي أن يكون مخلصا لمهنته إذا تفاعل بأساليب مضرة بالثوابت الوطنية والاجتماعية الصالحة، والتي تسعى على ضوئها معظم المجتمعات الأرضية، ومن أبسطها، أن لا يساهم الصحفي في تمييع القيم الوطنية، وتقوية السلوك الفاسد وتشجيع التواطؤ والخيانة، والدعاية للكراسي ومؤازرة سلوكها لأنها تمنحه امتيازات وتوفر له ما يريد من المتطلبات.
فعمل الصحفي مسؤولية وطنية وتأريخية وإنسانية ذات تأثير مهم في بناء الحياة أو تخريبها. ولهذا فإن العمل الصحفي يحتاج إلى أن يتجسد في جمعيات أو نقابات تحافظ على التقاليد الصحفية المعمول بها في عالم الصحافة الحرة النزيهة، الساعية إلى الصدق وإظهار الحقيقة أمام أبناء المجتمع لكي يستنيروا ويقرروا لصالحهم، وأن لا يكونوا ضحية الخداع والتضليل والأكاذيب المنمقة.
وفي هذا الشأن تبرز أهمية الجمعية الصحفية أو النقابة الحرة المسؤولة التي تحمل راية الصحافة بشجاعة وإقدام وجرأة، لا تضعف أمام أقوى التحديات وأشرسها. كما أن مسؤولية الصحفي تتطلب أن يجد ويجتهد في توفير المعلومات الموثقة المستندة على بيانات لا يمكن تكذيبها أو عدم تصديقها، أي أن الخبر أو التقرير يجب أن يكون صادقا وصحيحا وغير مصطنع من أجل توجيه آراء الناس نحو هدف معين يريده هذا الحزب أو ذاك.
ولهذا فإن ما تتناوله الصحافة لابد أن يكون واقعيا لكي تكتسب الصحافة ثقة الناس، وتؤدي رسالتها في توعيتهم وتوفير المعلومات اللازمة لتحقيق مصالحهم. وفي بعض المجتمعات هناك سياسات مدبرة من أجل زعزعة ثقة الناس بالصحافة ومحاولة تشويش الأخبار وتمويه الحقائق وإتلاف الوقائع، وهذه الأساليب السياسية المنحرفة قد ترعرعت في بعض المجتمعات خصوصا التي يتم تسجيل الأعمال السيئة والجرائم فيها ضد مجهول، أو التي أوجدت قميصا أو أكثر ترمي عليه سيئاتها، وتبرر أفعالها وإجراءاتها.
أي أن هناك حركة مضادة لحرية الصحافة فيها، وتوجهات لتدمير أركان العمل الصحفي المستقل، وتحويل الأقلام إلى لسان حال هذه الجهة أو تلك، وتسمي هذه الانحرافات بالديمقراطية، مما يساهم في تشويش الوقائع والأحداث واستلاب رأي الناس وتمرير إرادة الكراسي ومراكز القوى التي تريد العبث بكل شيء. ووفقا لهذا فالناس لا تتمكن من التعبير عن خياراتها واتخاذ قراراتها، وإنما ستسقط مرغمة في تيار التبعية والاستسلام للحركات والأحزاب، التي تتحكم بمصيرها وفقا لمصالحها وأهدافها الأنانية والغير وطنية. وعليه فإن الصحافة ستكون ضحية وتابع وكذلك أبناء المجتمع الذي تعمل فيه.
وفي المجتمعات الحرة يكون موضوع علاقة الصحافة بالسلطة حساس جدا، ولا يمكن الوثوق بأقوال مريديها وأبواقها، وإنما يجب أن تتوفر الحقائق الموثوق بها والتقارير الصحيحة الصريحة التي تؤكد أو تنفي الحالة التي في صدد الحديث. وفي مجتمعاتنا تتضارب الأقوال عن أي مقال وتقرير ينشر في الصحف المتنوعة، وتثار حوله الشكوك والتهديدات والتخويف والعديد من إجراءات الترهيب والترغيب والوعيد، لكي يتحقق الإيقاع بكاتبه ومن ثم تسخيره لغاية ما، يجدها هي الخيار الوحيد المتبقي أمامه، وبهذه الطريقة يتم إسقاط الصحفيين في شباك الأحزاب والقوى السياسية. ولهذا نقرأ العديد من المقالات والمواقف المتناقضة والتي تهدف أصلا للتشويش وخلق حالة من الاضطراب وعدم الثقة والحيرة، التي تجعل الإنسان بلا قدرة على امتلاك رأي أو فهم يؤسس لموقف مفيد.
ويظهر أن هناك جهود جادة ومدروسة ومبرمجة وذات خبرات متطورة تقوم بالالتفاف حول أي تقرير أو تحقيق صحفي يبين الحقيقة ويكشف المخفي والمدسوس، وهذه الجهود تعبر عن دورها ومهاراتها الإعلامية وقدراتها في بناء آراء الآخرين وفقا لنظريات معقدة، تستدعي من الصحفي الحر أن يتحلى بأعلى دراجات الوعي المهني والثقافة، لكي ينتصر عليها ويمنع عنها أي منفذ يمكنها أن تتسرب منه لتقضي على ما جاء به.
ويبدو أن صحافتنا قد تعاني من هذا المرض الذي يتم بث جراثيمه في أوساطها, لكي تصاب بعدم الثقة بها وتهميش دورها وتأثيرها في المجتمع، وتحويلها إلى أداة لحماية المسيئين، فتنتهي فيها كل معاني الصحافة الحرة وتتحول إلى لسان حال للكراسي وحسب.
واقرأ أيضاً:
إعمال العقل في النص القرآني!! / أخٌ من الإسبان بنا حيران!! / الكفر والتكفير!!/ قول الحقيقة لا ينفع!! / الانتحار والاندحار!!* / المصطلحات التفريقية!!