منذ بداية القرن الحادي والعشرين والبشرية في رحلة انتقالية غير مسبوقة، تتعرض فيها العقول والنفوس إلى مشاهد وأحداث لا تستطيع استيعابها والتفاعل معها، لأنها خارج نطاق قدرات العقل والنفس البشرية، فالضخ المعلوماتي السريع لا يمكن للرؤوس والنفوس أن تدركه، وتتواصل معه بكامل وعيها وقدرتها على الحياة.
وبسبب ذلك فإن الملايين من البشر يميلون للانكماش والانعزال والاندحار في ذاتهم ويجردون اهتمامهم بأي موضوع، لأن الواقع الذي هم فيه يبدو وكأنه محيط متلاطم الأمواج والأعاصير، فكيف سيتحقق إبحارهم في لجج التدفق المعلوماتي وتيارات التواصل الاجتماعي المهووسة.
إن الذي يحصل لا يمكن لجميع البشر التفاعل معه بقدرة إيجابية، وربما سيحث فيهم طاقات سلبية وأحاسيس بالعجز وعدم القدرة على الاستيعاب والمواكبة، وسيجدون أنفسهم على هامش الأيام، وصرعى على جرف الحياة المرير، فيصيبهم الجفاف والخواء والذبول والغياب الأبيد.
ويبدو أن آليات العولمة الجديدة ستتسبب باندفاعات انتحارية على مستوى الأفراد والمجتمعات والشعوب، وهذا ما يحصل في بعض المجتمعات المندحرة بالغابرات، كتعبير عن الانهزامية والقنوطية والانكماشية في قوقعة وجودها السلحفاتي أو المتدحرج إلى ما بعد الوراء. وقد انزوت بعض المجتمعات في كينونات طائفية ومذهبية مؤطرة بدين، لأن في الدين يتحقق الهرب الأمين، لكنه في ذات الوقت يفرض قناعات أصولية وتصورات دوغماتية، تتسبب بتصارعات انتحارية ما بين الفئات المتخندقة في ذاتها وموضوعها الذي تعامت وتماهت فيه.
وفي مسيرات التأريخ هناك اندفاعات نحو العولمة أدت إلى حروب طاحنة ودمارات هائلة في أصقاع الدنيا المختلفة، فنزعة العولمة ليست جديدة وإنما هي قائمة لكن وسائل التعبير عنها تختلف وفقا للعصر الذي تتحرك فيه، وتسعى للتحقق والتعبير عن تصوراتها وإراداتها الميالة للمحق والتأكيد.
واليوم تجدنا أمام أشرس آليات العولمة الفائقة السرعة والتأثير، والتي تتمكن من الهدف بقدرات نوعية ذات تأثيرات شديدة، فيكون الهدف مقبوضا عليه قبل التماس معه، ولهذا فإن العديد من المجتمعات ربما ستتحول إلى رهائن عند القوى القادرة على امتلاكها بما تعرفه من برامج وأساليب تجهلها تلك المجتمعات، وهذا يعني أن التداعيات الانتحارية المباشرة والغير مباشرة ستتفاعل لتمرير وتعزيز سلوك الانتحار الفتاك اللازم لتأمين مصالح القوى الطامحة لافتراس غيرها، ووفقا لذلك فإن الهدف المطلوب سيقتل نفسه ويكون صيدا سهلا لمستهدفه.
وما يجري في الواقع العربي يمكن تفسيره وفقا لما تقدم، فهل ستمضي مجتمعاتنا في منحدرات الإهلاك الذاتي والموضوعي، وكأنها منومة أو مخدرة؟!!
واقرأ أيضاً:
كتابات ثأرية قيحية!! / خطيئة العلماء العرب!! / الهبوط على المريخ وعد انتخابي يا عرب!! / الأهداف الزئبقية ومجتمعاتنا الوهمية!! / الأنا الوطنية!!