التأريخ يخبرنا عن تكرار ظواهر عديدة في مسيرته، ذات تطلعات مناهضة لقوانينة ومعاكسة لاتجاهات حركته، لكنها تنتهي بسرعة وتنطفئ مثلما اتقدت وتأججت وأحرقت فاحترقت.
وما يحصل من ظواهر منافية للقيم والأخلاق والمعايير الإنسانية، والتقاليد المتعارف عليها على مر العصور، إنما هي احتراقات في أحطاب وركام الويلات، التي تأججت وستخمد حتما وتتحول إلى رماد ودخان.
وليس غريبا أن تمتلئ الفراغات بهذه الجيوب السرطانية ذات القدرات العنيفة، المعبرة عن أشرس ما في الأعماق البشرية من نوازع ودوافع وتطلعات للنفس الأمّارة بالسوء.
فالتأريخ لا يسمح بالفراغات لأنها تناهض طبائع المسيرة الكونية، وقوانين الدوران التي تتحكم بالحياة، كم أن أمّنا الأرض تأبى أن تتخللها الفراغات لأنها تتقيح وتتسرطن، وتمحق الحياة، وهذا يتقاطع مع رسالتها التي تسعى بدورانها للحفاظ على مكوناتها المختلفة، وتحثها على التفاعل والتواصل والنماء لصيانة الوجود.
ومن أهم عوامل توليد الفراغات هو غياب الدولة وانحسار قوتها، فكلما حققت الدولة ضعفا ازدادت إمكانية حصول الفراغات وامتلاؤها بالخلايا السرطانية، ومجاميعها ذات الانتشارية الفتاكة الساعية لقتل الدولة والإنسان.
وكلما أصيبت المجتمعات بغزوات سرطانية، فإنها تستجمع طاقاتها وتُفاعل قواتها وتتناسى خلافاتا وتهب بإرادة واحدة وقلب واحد، لمحاصرة الغزوة السرطانية، وتحجيمها وقطع أوعية حياتها ونمائها، حتى يتحقق انكماشها وذبولها وموتها، والتخلص من شرورها وآثارها القاتلة.
ولكل داء سرطاني أسباب وعوامل لابد من معالجتها للوقاية من تكرار ظهور الداء، مما يستوجب تقيما متواصلا وفحصا دقيقا، وعلاجا مناسبا يمنع عودة الداء، والخلاص من منابعه ومواطنه الكامنة في البشر.
ويقف المجتمع العربي أمام تحدي سرطاني شرس الطباع، متوحش الانتشارية والقدرة على التغلغل في بدن الأمة وقلب الإنسان، مما يتطلب قدرات علمية وبحثية لمعالجة ظاهرة انتشار الفراغات، وذلك يكون بتحقيق أعلى درجات توفير الخدمات وأسس البنى التحتية، وإشاعة الأمل بالبناء وتوفير فرص العمل والإبداع والابتكار، والتطور الصناعي والزراعي والتجاري والعمراني، والنقل بآليات معاصرة ومتواكبة مع أحدث المستجدات في العالم.
كما أن من المهم التركيز على الثقافة الصالحة الجامعة، الداعية للحرية والكرامة واحترام الإنسان والدستور والقانون الذي يحفظ حقوقه ويحدد واجباته.
هذا ما يحدثنا به التأريخ، ويزودنا بخرائط ووسائل الوقاية والعلاج، وعلينا أن نتفاعل معها بوعي ومعاصرة وقدرة على العطاء الأصيل.
فهل سنتمكن من ابتكار وسائل الوقاية والعلاج، أم سنبقى الضحايا التي تستجدي من الآخرين الرحمة والحماية؟!!
واقرأ أيضاً:
النتيجة والسبب!! / تايمز سكوير والدنيا بخير!! / مجتمعات تحكمها الأموات!! / القِوى بين الربط والتحدي!! / قال وقال وأمة تُقال!!