"فاصفحِ الصفحَ الجميل" الحجر85
سأتناول الموضوع وفقا لمنظار الطبيعة البشرية والآليات النفسية التي تحرك السلوك وتحدد خارطة التوجهات. وهذا المقال منشور قبل عقدٍ من الزمان. فهل أن التسامح والسلام من طبع البشر؟
إن أية نظرة متفحصة أو سريعة لمسيرة الحياة البشرية فوق التراب، تؤكد بأن السلام سراب نطارده والتسامح حلما من أحلام اليقظة! ولهذا استمرت الحروب واشتد أوارها، وتم استخدام وتسخير كل المبتكرات للقيام بفعل الشر، وما أبدعناه ضد التسامح والسلام يتفوق كثيرا جدا على ما أوجدناه من أجلهما.
فالسلام حالة أرضية غير ممكنة وكذلك التسامح لأنهما لا يصلحان كوسيلة أو مبدأ للبقاء والتواصل. فالأرض تفرض قوانينها وإرادة التراب تتفوق والصراع ما بين أقطاب الوجود متواصلة وبها يبقى ويتجدد وبدونها ينتفي ويغب تماما. فقانون الصيرورة الكونية والديمومة الحية محكوم بالصراع ومعطياته، وبقوانين الغاب ودستورها الذي يتسلط على سلوك الأحياء بأسرها ومنها البشر.
ولو كان التسامح مفيدا ويمتلك قدرات اقتصادية وبقائية لتأكدت تقاليده وأعرافه منذ أبعد الأزمان. لكن الواقع البشري عبر العصور يؤكد أن الحروب هي السائدة والعدوان هو المتحقق والمؤكد والفاعل في الحياة.
وقد خاضت البشرية أقسى وأعتى الحروب في القرن العشرين وهي مقبلة على الأعتى والأقسى في القرن الحادي والعشرين الذي توفرت فيه أسباب التدمير الفائق والخارق .
فقد تعلمت البشرية أساليب للفتك ببعضها لم تخطر على من سكن الأرض قبل هذا العصر المتفجر بالطاقات الخارقة، فالعقل قد تمكن من الخيال والأفكار صارت صاغرةً طائعةً لإرادة البشر واستبداد أمارة الهوى التي تتوطنه.
فالكلام عن التسامح يعني الكلام عن السلام، وحضور السلام لا يعني بالضرورة تحقيق التسامح، فالسلام قد تصنعه القنابل النووية كما حصل في الحرب العالمية الثانية. والسلام الذي يسعى إليه البشر هو سلام الغلبة والافتراس وليس سلام التسامح والمحبة والأخوة، لأن في ذلك تعارض مع طبائع النفوس وتعطيل لآليات الصراع الذي يحكم خطوات المخلوقات ويتأكد مع دوران الأرض التي تضخنا بطاقات التلاحم المرير.
فالبشرية في سلوكها محكومة بالانفعال والعواطف الساخنة التي تسخر العقول لمصالحها وليس العكس، ومشكلة التسامح مرتبطة بسيرورات العواطف والانفعالات التي تتحكم بقدرات البصر والإدراك وضبط السلوك، أو ما نسميه بالحلم، الذي يندر بين الناس، فلو ساد الحلم لساد التسامح .
لكن العواطف دوما منتصرة ، ولا يمكن للنفوس أن تهدأ إذا ثارت وقد يتوارث الأجيال ثورتها لأنها تتسبب في تغيرات جينية فاعلة في سلوكنا وكيفيات إدراكنا وإستقبالنا لأحاسيسنا وما يدور حولنا.
فمسيرة البشرية الطويلة الغنية بالصراعات والحروب والعدوان ، قد خلفت موروثات جينية كثيرة جدا من الصعب التحرر من قيودها وتحطيم أسرها والإنتصار على إرادتها. فالعدوان متعة المخلوقات والتسامح لا يوفر لها تلك اللذة البقائية المتأججة التي يمنحها لها العدوان، الذي يعني القوة والانتصار على إرادة الموت أو التوهم بذلك. فما دام الموت قائما، فإن من الصعب جدا على المخلوقات في مسيرتها ما بين الولادة والختام، أن تستكين للتسامح وتؤمن حقا بالسلام، لأن الموت طاقة فاعلة في دياجير لا وعيها وقوة تحركها باتجاه هدف نهايتها وتجددها بالتوالد المعبر عن الأصلح فيها. والمشكلة العصية التي تجابه التسامح والسلام، أن المردودات الاقتصادية للسلام أقل من مردودات الحروب والعدوان.
فالحروب ومنذ بدايتها كانت نشاطات اقتصادية تستبيح بها المجتمعات مجتمعات أخرى وتمتلك ثرواتها وقدراتها المادية والبشرية، وتسرق جيناتها بالتزاوج مع الغنائم الأنثوية بعد إبادة الذكور أو استعبادهم. ولا يمكن لبشرية قطعت هذه الأشواط الطويلة من الصراعات الدامية والمدمرة أن تركن بسهولة إلى السلام والتسامح، وتؤمن بأنهما سيوفران لها حياة اقتصادية آمنة.
قد يكون هذا المنطق غريبا لكنه فاعل في ديناميكية العدوان المتواصل فوق الأرض، ففي كل حرب تستباح مجتمعات وأعراض وثروات وتزهق أرواح ويربح مَن يربح ويخسر مَن يخسر، لكن البشرية تنطلق إلى عالم آخر بعد كل صراع فتاك، وقدراتها في التقدم والتطور تتناسب مع شدة حروبها وقسوتها .
ولهذا فإن الحرب العالمية الثانية أنجبت ما لا يخطر على البال من المبتكرات، وكذلك الحرب الباردة التي هي رمز للصراع المحتدم ما بين القوى البشرية، والتي عبرت عن كل طاقات العدوان واللاتسامح ما بين البشر، وانتهت إلى ما نحن عليه من منجزات في القرن العشرين، أي أنها قد عززت السلوك العدواني وأضعفت قدرات التسامح مابين الناس.
وبخصوص الأديان فإنها جميعا في جوهرها ذات منهج متقارب وتدعو إلى ذات المبادئ التي لا يمكنها أن تتجسد فعلا وتكون واقعا حيا، وهي في تصارع وتباعد وعدم اطمئنان، بسبب الأمية الدينية القائمة والمؤكدة في الذين يدّعون هذا الدين أو ذاك، أو الذين تفاعلوا مع الدين بقوة عاطفية شديدة العماء لدرجة أنهم صاروا طاقات عدوانية مؤهلة للانفجار السريع والمدمر، ليس بسبب الفهم الصحيح للدين وإنما بفعل تجسيدهم لعدوانيتهم ومنحها معاني سامية أخرى تسوغها، فيصير عندهم القتل عادة ونوع من طقوس الدين ولكي يريحوا ضمائرهم الخربة التي تحاول اليقظة بين الحين والحين، لكنهم يلجمونها بشراسة عدوانية جديدة تنمي طاقات الفتك بالآخر والتوهم باللاموجود فيهم.
وهكذا فإن التسامح والسلام سيبقيان من أحلام البشرية الأبدية العصية على التجسيد فوق التراب، إلا فيما قلّ وندر بين بعض البشر المتنور والصاعد بمداركه إلى حيث التسامي الإنساني الرحيم، والتمثل المطلق العميق لمعاني الوحدانية وقوانين الكينونة الكونية. وربما ستستمر على أنها ترف فكري وتطلع لا يقر بمنطقه منهج التراب وتنكره عقيدة الطين.
ونحن مخلوقات تعادي ما لا تدريه، وكلما ازدادت مسافات معرفتنا لبعضنا كلما ازدادت عدوانيتنا على بعضنا البعض، وكأن فينا قوى تمنعنا من الإصغاء لبعضنا وتوهمنا بالمعرفة الأنانية، وترغمنا على اتهام الآخر بما يبرر لنا العدوان عليه وفقا لقدراتنا. فهل رأيتم قوةً لا تظلم وقويا لا يستبد، وطاقةً لا تعبر عن نفسها وتؤثر في محيطها.
ففي النفوس قوى وطاقات لابد لها أن تظهر وتدخل في خضم الصراع الأرضي المحتدم، الذي تمنحه طاقات البقاء أمنا الشمس وهي ترقب مطحنة الأرض الدوارة فينا.
وبدلا من التركيز على التسامح والسلام من العملي والنافع أن نركز على التفاعل المفيد بين البشر، وأن نوفر الظروف الموضوعية اللازمة لتنمية القدرات الإيجابية ذات المصلحة المشتركة، ونبتكر قوانين التعاون المعاصرة، التي ستمنحنا فرصة لتحقيق الأفضل والاقتراب من بعضنا، ورعاية مفردات الاطمئنان والأخوة الإنسانية، التي ربما تؤثر في تغيير مواقفنا وخرائط سلوكنا التي نراها غير مجدية.
وختاما، يبدو أن أدمغتنا قد تشكلت بوسائل تؤهلها للتعبير عن التخاصم والعدوان والحروب أكثر من التسامح والسلام، ولكي نعيد تشكيلها فإننا بحاجة إلى مسيرة أجيالٍ وأجيالٍ وأجيال.
واقرأ أيضاً:
الظواهر المعاكسة تندحر!! / المجتمعات المفخخة!! / هزي قهر يا أمة!!